تفاسير كتابية
السّنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
إن سفر التكوين من أقدم ما كُتب في العالم حتى رجح بعضهم أنه أقدم كتب الأرض وفيه نبأ أصل العالم الصحيح وخلق الإنسان على صورته تعالى وشبهه وسقوط الجنس البشري وفساده. وهو أصل كل الدين الموسوي والدين المسيحي. وقد كُتب والبشر في صبوته وهو جوهر المواضيع الدينية. وفيه إعلان قدرة الله لأنه أبدع البرايا وإعلان حكمته لأنه أحسن إتقان العالمين على مقتضى ما أودع في العالم المادي من النواميس وكان ترتيب الخلق بحسبها على ما فُضل من خلق كل يوم من أيام الخليقة الستة (انظر تفسير ص 1). وإعلان جوده فإنه بجوده خلق الإنسان وكل ما يحتاج إليه لا لحاجته سبحانه وتعالى إلى الخلق لأنه غني عن كل ما خلق. وتاريخ دخول الخطيئة إلى العالم فإظهار رحمته تعالى وعدله. فرحمته كانت بحفظ الإنسان وعنايته به بعد السقوط وعدله بإخراجه الإنسان من الفردوس إلى أرض الشقاء والبلاء والموت. وفيه من أحسن مجالي رحمة الخالق القدير وحبه للإنسان العاصي الوعد بمنقذٍ من الشقاء والهلاك الأبدي وهو نسل المرأة الذي أمات الموت بموته وأعلن القيامة والخلود بقيامته. والخلاصة إن في هذا السفر بيان كل ما تستطيعه المدارك البشرية من صفات واجب الوجود والحياة الأبدية بفداء الابن الأزلي فهو أسُّ الدين المسيحي ودعامة كل ما فاه به المسيح والرسل والأنبياء.
إن موضوع هذا السفر خروج بني إسرائيل من مصر لكن ذلك ليس كل مشتملاته ولا المقصد العام فيه. فإن من أعظم غايات الكاتب بيان أول درجات إتمام وعد الله للآباء مع بيان نمو الإسرائيليين وطريق نشوئهم من بيت إلى قبيلة ومن قبيلة إلى أمة. فإن سفر التكوين ترك لنا الإسرائيليين بيتاً (تكوين 1: 22) والخروج تركهم لنا أمة تزيد على ألفي ألف نفس تحت رؤساء قانونيين (خروج 18: 21 - 24) وأهل نظام عبادة مقرر وكهنوت وشريعة وقضاء. فإنك تجدهم في (ص 1: 106) بيتاً وتراهم في (ص 33: 13) شعب الله. وبدخول مجد الرب خيمة الاجتماع (ص 40: 34) ثم كونهم مملكة الله ملكها وهو يسكن بين شعبه متسلطاً ومرشداً وقائداً. وإن تلك الأمة قبلته رأسها وصارت مملكة له (ص 19: 6). نعم إنها ظلت إلى ذلك الحين من أهل البادية لكنها كانت أمة مربوطة بشريعة وقوانين.
يشتمل هذا السفر على تاريخ شهر واحد وهو الشهر الأول من السنة الثانية لخروجهم من مصر (انظر خروج 40: 16 وعدد 1: 1) وفيه الشرائع المختصة باللاويين والكهنة والذبائح. وفُصل الكلام فيه على الذبائح (ص 1: 1 - ص 7: 38). والكهنوت والوصايا المتعلقة به (ص 8: 1 - ص 10: 20). وبيان البهائم النجسة (ص 11: 1 - 1: 47). ودنس الإنسان (ص 12: 1 - ص 15: 33). ويوم الكفارة (ص 16: 1 - 34). ووجوب حفظ الطهارة في الحياة اليومية في البيوت وخارجها في الاجتماعات والمعاشرات (ص 17: 1 - ص 20: 27). وقداسة الكهنة وطهارتهم في خدمتهم المقدسة (ص 21: 1 - ص 22: 33). وتقديس المواسم (ص 23: 1 - ص 24: 12). وكل الأرض (ص 25: 1 - ص 26: 2). وبعض المسائل الشرعية من أدبية وسياسية ورمزية.
ذُكر تاريخ بداءة الزمان الذي قُصّ فيه نبأُ هذا السفر في أوله وهي اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة الثانية لخروج إسرائيل من مصر يوم أمر الرب موسى أن يحصي كل جماعة إسرائيل (ص ١: ١ و٢). وكان موت هارون على ما يُعرف من (ص ٣٣: ٣٨) في السنة الأربعين لخروج الإسرائيليين من أرض مصر في اليوم الأول من الشهر الخامس من تلك السنة فالمدة ما بين الحادثتين ثمانٍ وثلاثون سنة وثلاثة أشهر. وحوادث هذا السفر الأخيرة حدثت على الجانب الشرقي من نهر الأردن. وكُررت الشريعة في سفر التثنية في بدء الشهر الحادي عشر من السنة المكملة الأربعين (تثنية ١: ٣). وكان عبورهم نهر الأردن بقيادة يشوع في اليوم العاشر من السنة التالية (يشوع ٤: ١٩). فظهر من ذلك إن كل الزمان الذي يشتمل عليه سفر العدد نحو تسع وثلاثين سنة.
اسم هذا السفر عند اليهود كما سبقه من أسفار التوراة في أنه بعض كلمات أوله. فاسمه «إله هدبريم» أي هذا (هو) الكلام. وهو جزء من التوراة في الأصل لا سفر مستقل ولم يُفرد سفراً برأسه إلا بعد أن تُرجمت إلى اليونانية. ورأى بعضهم أنه سفر مستقل لعدم الواو في أوله كما في كل من سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد. وهذا غير موجب لاستقلاله فإن كثيراً من أجزاء السفر الواحد بل الفصل الواحد لا واو في أولها. على أن المرجّح أن أول السفر الآية الثالثة من ص 1 وفيها الواو أو الفاء. وإن قوله في أول هذا السفر يشعر بأنه جزء من التوراة أو تابع لما قبله ولا يظهر من ذلك إلا للمتأملين. وسماه بعض اليهود «سفر التوبيخ» لما فيه من اللوم والتعنيف للإسرائيليين يومئذ. وسماه بعضهم «التوراة» لاشتماله على الشريعة إذ هو تكرار لها. وسماه بعضهم «المشنة» وهذا الاسم كلمة في (ص 17: 18) في العبرانية ومعناه مثنى فهو كالتثنية وتُرجمت «مشنة» إلى العربية في هذا الموضع بنسخة. وهو الاسم الذي اختاره مترجمو التوراة إلى اليونانية والأول مترجموها إلى العربية لأن هذا السفر تكرار ما سبق من الشريعة والتاريخ معاً. وليس فيه ما زاد على التاريخ السابق سوى موت موسى ولا شيء من المعلنات لموسى فوق ما تقدم. ولا فرق في التسمية اليونانية والتسمية العربية في المعنى فالمقصود بها في العربية كتابة الشريعة مرتين أو تلاوتها كذلك. ومعناها في اليونانية «الشريعة الثانية» أو «تأليف الشريعة ثانية» أو كتابتها كذلك.
كان يشوع في قيادته لشعب الله رمزاً إلى يسوع فالإسمان واحد إنما صار يشوع في اليونانية يسوع. ومعنى الإسم يفيد أنه مخلّص فإن يشوع غلب أعداء شعب الله وخلّص الشعب من الأخطار وملّكه أرض الموعد ويسوع خلّص الشعب من أعظم الاعداء الشيطان والخطيئة. قال الملاك جبرائيل ليوسف في البشارة بالفادي «وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». يشوع المنسوب إليه هذا السفر هو ابن نون أحد رجال أفرايم (١أيام ٧: ٢٠ - ٢٧) ولم يُذكر اسم أمه مع كثرة ذكر اسم أبيه. واسمه الأصلي هوشع (عدد ١٣: ٨) وهو لفظة عبرانية معناها خلاص (١أيام ٧: ٢٧). ثم دعاه موسى يهوشع ومعناه الرب خلّص وكُتب في الترجمة العربية يشوع. وفي كتب مؤرخي العربية وغيرها من مؤلفات العرب يُوشع وهو أقرب إلى الاسم العبراني يهوشع. ويشوع هو اسم الفادي الذي هو فوق كل اسم وصار في اليونانية يسوع بإبدال الشين سيناً.
اختلفت الأقوال في كاتب هذا السفر حتى تعذّر القطع بكاتبه. فذهب بعضهم إلى أن كاتبه صموئيل وبعضهم إلى أنه حزقيا وبعضهم إلى أنه عزرا وأنه جمعه مما كتبه القضاة في كل زمان ولايته. وهذا أي القول بأن عزرا كاتبه مبني على ما جاء في (ص ١٨: ٣٠) وهو قوله «وَكَانَ يَهُونَاثَانُ بْنُ جَرْشُومَ بْنُ مَنَسَّى هُوَ وَبَنُوهُ كَهَنَةً لِسِبْطِ ٱلدَّانِيِّينَ إِلَى يَوْمِ سَبْيِ ٱلأَرْضِ» فظن الباحث أنه كُتب بعد سبي بابل. ولكن يظهر مما جاء في (مزمور ٧٨: ٦٠ و٦١ و١صموئيل ٤: ١١) إن هذا السبي حدث يوم أخذ الفلسطينيون التابوت. وهذا يدل على أنه كُتب قبل سبي بابل بخلاف الأسفار التي كُتبت بعد ذلك السبي. وأكثر اليهود والمسيحيين على أن كاتبه صموئيل فإن ما فيه موافق لعصره. ولك دليل آخر وهو قول الكاتب إن الأمر كذا وكذا كان قبل أن يكون ملك في إسرائيل فيوم كُتب كان ملك فيه لكنه كُتب على أثر إقامة ملك في إسرائيل أي ليس بعد زمان طويل بدليل ما في (ص ١: ٢١) وهو أن اليبوسيين كانوا لا يزالون في أورشليم وهؤلاء طُردوا من أورشليم على أثر ملك داود (٢صموئيل ٥: ٦). وما في (ص ٩: ٥٣ و٢صموئيل ١١: ٢١) يبيّن أن سفر القضاة كُتب قبل سفر صموئيل الثاني وهو موافق كل الموافقة للقول بأن صموئيل هو الكاتب دون غيره. وإن زمان كتابته قرب داود أو في أثناء السنين السبع من ملكه. ومن أحسن النظر في أقوال هذا السفر ظهر له أن كاتبه صموئيل. ولا ريب في أن الحوادث في عصر كل من أولئك القضاة كان القضاة وغيرهم من المؤرخين يكتبونها في أوقاتها وإن صموئيل وقف على تلك المكتوبات وألهمه الله أن يكتب الصحيح لأنه كان من الأنبياء الذين يكلمهم الرب ويوحي إليهم. وبعد هذا التحقيق كله إن عدم معرفة كاتب سفر من أسفار الوحي لا يثلم صحته ولا قانونيته لأن الوحي لم ينقطع عن إسرائيل إلى آخر أنبيائهم فكان الأنبياء والموحى إليهم رقباء الأسفار المقدسة ومصدقيها للشعب. فكان الشعب واثقاً بما فيها يحرص عليها كل الحرص على توالي السنين والأيام.
الكاتب مجهول. والأرجح أنه كان في زمان مُلك داود لأنه من المنتظر أن داود أحبّ أن يبحث عن أسلافه وأن يُظهر فضائل الموآبيين التي كانت راعوث منهم. الغاية من كتابة هذا السفر هي أن تظهر (أولاً) العلاقة بين راعوث والملك داود فكانت راعوث من أسلاف داود وأسلاف المسيح أيضاً. ونرى في سلسلة نسب المسيح في (متّى ١: ١ - ١٦) أسماء أربع نساء وهنّ ثامار الكنعانية وراحاب الكنعانية وراعوث الموآبية وبثشبع وثلاث منهن أجنبيات ولعلّ قصد الله في ذلك أن يبيّن أن المسيح هو ابن الإنسان أي أخذ لنفسه طبيعة كل البشر وليس طبيعة اليهود فقط وهو مخلّص لكل بني البشر. (ثانياً) إن ملكوت الله يتضمن كل البشر فكان انضمام راعوث إلى شعب الله عربون انضمام الأمم ونقض حائط السياج المتوسط بين اليهود والأمم وجعلهما شعباً واحداً في المسيح (أفسس ٢: ١٤). ثالثاً: فضيلة المحبة المخلصة وأجرها. (رابعاً) إن محبة كنّة لحماتها وتركها كل شيء لأجلها وتعلقها بها في كل الأحوال تمثل محبة المؤمنين أفراداً للكنيسة وتمثل أيضاً اتحاد جميع المؤمنين بالمسيح وهو رأس الكنيسة. ونفَس السفر بسيط فصيح مؤثر يناسب الموضوع. وهذه القصة الحقيقية التاريخية من أجمل قصص الكتاب وليس في كل التواريخ والروايات أجمل منها. ومكانها في الكتاب بعد سفر القضاة الذي جاء فيه ذكر حروب العظماء وأعمالهم وخطايا فظيعة. فنظرنا إلى هذا السفر بعد النظر إلى سفر القضاة كالانتقال من ميدان الحرب والوغى وسفك الدم إلى بيت فيه السلام والمحبة والراحة والهدوء.
يتضمن هذا السفر ولادة صموئيل وحداثته وخطايا بني عالي الفظيعة وخطيئة عالي في عدم ردعهم وكلام الرب لصموئيل أولاً (ص ١ - ٣). انهزام الإسرائيليين وأخذ تابوت الله وموت عالي وابنيه وإقامة التابوت في أرض الفلسطينيين وإرجاعه إلى بلاد إسرائيل وتجديد العهد في مصفاة وانكسار الفلسطينيين (ص ٤ - ٧). تعيين الملك الأول وقضاؤه (ص ٨ - ١٠). مُلك شاول. وفيه انكسار العمونيين وتثبيت شاول في الجلجال وكلام صموئيل الوداعي للشعب ومحاربة الفلسطينيين وبسالة يوناثان ومحاربة العمالقة وعناد شاول ورفض الرب له (ص ١١ - ١٥). تعيين داود ملكاً عوضاً عن شاول وقتل جليات وانهزام الفلسطينيين ومحاولة شاول قتل داود وهرب داود من وجه شاول وجولانه وحادثة كهنة نوب وحادثة أبيجايل وحادثة داود في جتّ وزيارة شاول لصاحبة جان وسقوطه قتيلاً في جبل جلبوع (ص ١٦ - ٣١).
موضوع السفر الثاني تبوُّء داود العرش وحروبه وإصعاده التابوت إلى أورشليم وسقوطه في بعض الخطايا وأتعابه بسببها. ومعرفة سفر صموئيل الثاني ضرورية لكل من يريد أن يفهم مزامير داود. ولا نتعجب من تخصيص جزء كبير من الكتاب المقدس لترجمة شخص واحد لأن داود وإن كان هو الملك الثاني فله عمل في تأسيس المملكة أكثر من شاول. وأعدّ داود لابنه سليمان المواد لأجل بناء الهيكل ورتب أيضاً خدمة العبادة وألف أكثر المزامير وكان أكبر الملوك وأكبر أسلاف المسيح حتى تسمّى المسيح ابن داود. والغاية من الكتاب المقدس ليست سرد تاريخ العالم ولا تاريخ إسرائيل بل ذكر الأمور المختصة بالفدى بواسطة المسيح.
كان سفرا صموئيل سفراً واحداً وسفرا الملوك سفراً واحداً في الأصل العبراني. وفي الترجمة السبعينية التي تمت ما بين ١٠٠ و٢٠٠ سنة قبل المسيح قُسم سفر صموئيل إلى سفرين وسفر الملوك إلى سفرين وسُميت الملوك الأول والثاني والثالث والرابع. وقُبل هذا التقسيم في الترجمة اللاتينية التي ترجمها جيروم نحو ٤٠٠ سنة بعد المسيح. ودخل في التوراة العبرانية في السنة ١٥١٨. كان تأليفهما بعد سنة ٥٦١ ق. م. لأن في هذه السنة مَلَك أويل مردوخ المذكور في (٢ملوك ٢٥: ٢٧ - ٣٠) وكان قبل الرجوع من السبي لأن لا إشارة في السفرين إليه. والمظنون من نَفَس السفرين أن تأليفهما كان قبل الرجوع بزمان وربما كان نحو السنة ٥٦٠ ق. وكان تأليف بعضهما قبل ذلك التاريخ. أما الغاية من تأليف السفرين إنهما يذكران ملوك يهوذا وإسرائيل وحروبهم وأعمالهم على نسق تاريخي. ولكن قصد المؤلف الأهم بيان الفوائد الروحية في هذه الحوادث التاريخية. فنرى أنّ الرب حفظ الذين حفظوا وصاياه وترك الذين تركوها. ونرى إتمام وعد الرب لداود (١صموئيل ٧: ١٢ - ١٦) أنه يقيم نسله أي سليمان ويثبت كرسي داود إلى الأبد. فوفقاً لهذه الغاية تكلم في سليمان بالتفصيل وكذلك في إقامة عبادة العجلين في دان وبيت إيل ودخول عبادة البعل في زمان أخاب والنبي إيليا وأليشع وإبادتها عن يد ياهو والإصلاح عن يد حزقيا ويوشيا. والمؤلف يترك أموراً كثيرة مهمة لأنها لم توافق غايته.
كان سفرا صموئيل سفراً واحداً وسفرا الملوك سفراً واحداً في الأصل العبراني. وفي الترجمة السبعينية التي تمت ما بين ١٠٠ و٢٠٠ سنة قبل المسيح قُسم سفر صموئيل إلى سفرين وسفر الملوك إلى سفرين وسُميت الملوك الأول والثاني والثالث والرابع. وقُبل هذا التقسيم في الترجمة اللاتينية التي ترجمها جيروم نحو ٤٠٠ سنة بعد المسيح. ودخل في التوراة العبرانية في السنة ١٥١٨. كان تأليفهما بعد سنة ٥٦١ ق. م. لأن في هذه السنة مَلَك أويل مردوخ المذكور في (٢ملوك ٢٥: ٢٧ - ٣٠) وكان قبل الرجوع من السبي لأن لا إشارة في السفرين إليه. والمظنون من نَفَس السفرين أن تأليفهما كان قبل الرجوع بزمان وربما كان نحو السنة ٥٦٠ ق. وكان تأليف بعضهما قبل ذلك التاريخ. أما الغاية من تأليف السفرين إنهما يذكران ملوك يهوذا وإسرائيل وحروبهم وأعمالهم على نسق تاريخي. ولكن قصد المؤلف الأهم بيان الفوائد الروحية في هذه الحوادث التاريخية. فنرى أنّ الرب حفظ الذين حفظوا وصاياه وترك الذين تركوها. ونرى إتمام وعد الرب لداود (١صموئيل ٧: ١٢ - ١٦) أنه يقيم نسله أي سليمان ويثبت كرسي داود إلى الأبد. فوفقاً لهذه الغاية تكلم في سليمان بالتفصيل وكذلك في إقامة عبادة العجلين في دان وبيت إيل ودخول عبادة البعل في زمان أخاب والنبي إيليا وأليشع وإبادتها عن يد ياهو والإصلاح عن يد حزقيا ويوشيا. والمؤلف يترك أموراً كثيرة مهمة لأنها لم توافق غايته.
من فوائد هذين السفرين الشهادة لما أتى في أسفار سابقة فإنه على فم شاهدين أو أكثر يثبت الكلام كشهادة البشائر الأربع بعضها لبعض. وليس هذان السفران تكراراً لأخبار سابقة فقط بل فيهما خصوصية. ومما يمتازان به عن سائر الأسفار: أولاً: الاعتبار للهيكل وفرائض الدين وخدامه. انظر نسب اللاويين للكهنة بالتفصيل (١أيام ص ٦) وذكراً خصوصاً للكهنة واللاويين في نبإ إصعاد التابوت (ص ١٥) وذكر فرق اللاويين بالتفصيل (ص ٢٣ إلى ص ٢٦) ووصايا داود لسليمان بشأن بناء الهيكل والتقادم من داود والرؤساء (ص ٢٨ و٢٩) والتجاء الكهنة واللاويين إلى رحبعام بعد انقسام المملكة (٢أيام ١١: ٥ - ٢٣) وإقامة يهوشافاط اللاويين والكهنة للقضاء (١٩: ٨ - ١١) ومحاربة يهوشافاط الموآبيين وبني عمون وانتصاره عليهم بعدما قام اللاويون ليسبحوا الرب (ص ٢٠) وقتل زكريا الكاهن (٢٤: ١٥ - ٢٢) ومقاومة عزريا الكاهن ومعه ثمانون من كهنة الرب لعزيا الملك حينما دخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور (٢٦: ١٦ - ٢١) وفصح حزقيا وإقامته فرق الكهنة واللاويين للمحرقات والذبائح وتنظيمه التقدمات والأقداس تحت إدارة اللاويين (ص ٣٠ و٣١). ثانياً: مما امتاز به سفرا أخبار الأيام جداول الأنساب من آدم إلى زمان السبي (١أيام ص ١ - ٩) وذكر الأسماء بالتدقيق. ومن أمثلة ذلك أسماء أبطال الجيش (١أيام ١١: ٢٦ - ٤٧) والذين جاءوا إلى داود إلى صقلغ (١٢: ١ - ١٤) وأبناء داود (١٤: ٤ - ٧) ورؤساء اللاويين (١٥: ٥ - ١١ و١٧ - ٢٤) والوزراء (١٨: ١٥ - ١٧) ورؤساء فرق الكهنة (٢٤: ٧ - ١٨) والمعيّنين لأجل غناء بيت الرب (٢٥: ٩ - ٣١) والبوابين (٢٦: ١٤ - ١٩) والذين خدموا الملك (٢٧: ٢ - ١٥) ورؤساء الأسباط (٢٧: ١٦ - ٢٢) والذين على الخزائن (٢٧: ٢٥ - ٣١) ورؤساء يهوشافاط (٢أيام ١٧: ٧ - ١٨) والرؤساء الذين كانوا مع يهوياداع (٢٣: ١) ورؤساء بني أفرايم (٢٨: ١٢) ورؤساء اللاويين في زمان حزقيا (٢٩: ١٢ - ١٤) والذين أتوا بالتقادم والأقداس في زمان حزقيا (٣١: ١٢ - ١٥) وفي زمان يوشيا (٣٤: ١٢) ورؤساء اللاويين في زمان يوشيا (٣٥: ٩). وربما كانت الغاية في ذكر هؤلاء بالتفصيل بيان الذين لهم حق الخدمة في الهيكل (عزرا ٢: ٦١ - ٦٣) وللملك وتحريض شعب اليهود على الغيرة لجنسهم ودينهم وانفصالهم عن الأمم وتحريضهم على الأمانة في الخدمة ليكون لهم أفراداً ذكر أبدي في سفر الرب وحفظ النسب حتى يأتي المسيح من نسل داود الذي فيه تتم المواعيد. ثالثاً: امتاز هذان السفران في بيان التعليم الروحي المتضمن في الأخبار التاريخية. لا يخفى أن هذا التعليم في أسفار صموئيل والملوك ولكنه في أخبار الأيام أوضح. ومن أمثلة ذلك صلاة يعبيص «لَيْتَكَ تُبَارِكُنِي، وَتُوَسِّعُ تُخُومِي، وَتَكُونُ يَدُكَ مَعِي، وَتَحْفَظُنِي مِنَ ٱلشَّرِّ» (١أيام ٤: ١٠) وانتصار بني رأوبين والجاديين لأنهم صرخوا إلى الله في القتال فاستجاب لهم لأنهم اتكلوا عليه (٥: ٢٠) وسبيهم لأنهم خانوا إله آبائهم ... فنبه إله إسرائيل روح فول ملك أشور... فسباهم (٥: ٢٥ و٢٦) وسبى إسرائيل بالإجمال لأجل خيانتهم (٩: ١) وبيان أسباب سقوط شاول وموته فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه وأيضاً لأجل استشارته الجان وعدم استشارته الرب فحوّل المملكة إلى داود (١٠: ١٣ و١٤). وهكذا تاريخ داود وسليمان ورحبعام وجميع الملوك فإنه يمثل لنا مجازاة الرب العادلة إذ يبارك خائفيه ويسلم مخالفي وصاياه إلى أعدائهم وإلى الهلاك والدمار. والكاتب لا يترك القارئ ليستنتج هذه النتائج بل يذكرها ويوضحها فلا يمكن القارئ إهمالها.
من فوائد هذين السفرين الشهادة لما أتى في أسفار سابقة فإنه على فم شاهدين أو أكثر يثبت الكلام كشهادة البشائر الأربع بعضها لبعض. وليس هذان السفران تكراراً لأخبار سابقة فقط بل فيهما خصوصية. ومما يمتازان به عن سائر الأسفار: أولاً: الاعتبار للهيكل وفرائض الدين وخدامه. انظر نسب اللاويين للكهنة بالتفصيل (١أيام ص ٦) وذكراً خصوصاً للكهنة واللاويين في نبإ إصعاد التابوت (ص ١٥) وذكر فرق اللاويين بالتفصيل (ص ٢٣ إلى ص ٢٦) ووصايا داود لسليمان بشأن بناء الهيكل والتقادم من داود والرؤساء (ص ٢٨ و٢٩) والتجاء الكهنة واللاويين إلى رحبعام بعد انقسام المملكة (٢أيام ١١: ٥ - ٢٣) وإقامة يهوشافاط اللاويين والكهنة للقضاء (١٩: ٨ - ١١) ومحاربة يهوشافاط الموآبيين وبني عمون وانتصاره عليهم بعدما قام اللاويون ليسبحوا الرب (ص ٢٠) وقتل زكريا الكاهن (٢٤: ١٥ - ٢٢) ومقاومة عزريا الكاهن ومعه ثمانون من كهنة الرب لعزيا الملك حينما دخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور (٢٦: ١٦ - ٢١) وفصح حزقيا وإقامته فرق الكهنة واللاويين للمحرقات والذبائح وتنظيمه التقدمات والأقداس تحت إدارة اللاويين (ص ٣٠ و٣١). ثانياً: مما امتاز به سفرا أخبار الأيام جداول الأنساب من آدم إلى زمان السبي (١أيام ص ١ - ٩) وذكر الأسماء بالتدقيق. ومن أمثلة ذلك أسماء أبطال الجيش (١أيام ١١: ٢٦ - ٤٧) والذين جاءوا إلى داود إلى صقلغ (١٢: ١ - ١٤) وأبناء داود (١٤: ٤ - ٧) ورؤساء اللاويين (١٥: ٥ - ١١ و١٧ - ٢٤) والوزراء (١٨: ١٥ - ١٧) ورؤساء فرق الكهنة (٢٤: ٧ - ١٨) والمعيّنين لأجل غناء بيت الرب (٢٥: ٩ - ٣١) والبوابين (٢٦: ١٤ - ١٩) والذين خدموا الملك (٢٧: ٢ - ١٥) ورؤساء الأسباط (٢٧: ١٦ - ٢٢) والذين على الخزائن (٢٧: ٢٥ - ٣١) ورؤساء يهوشافاط (٢أيام ١٧: ٧ - ١٨) والرؤساء الذين كانوا مع يهوياداع (٢٣: ١) ورؤساء بني أفرايم (٢٨: ١٢) ورؤساء اللاويين في زمان حزقيا (٢٩: ١٢ - ١٤) والذين أتوا بالتقادم والأقداس في زمان حزقيا (٣١: ١٢ - ١٥) وفي زمان يوشيا (٣٤: ١٢) ورؤساء اللاويين في زمان يوشيا (٣٥: ٩). وربما كانت الغاية في ذكر هؤلاء بالتفصيل بيان الذين لهم حق الخدمة في الهيكل (عزرا ٢: ٦١ - ٦٣) وللملك وتحريض شعب اليهود على الغيرة لجنسهم ودينهم وانفصالهم عن الأمم وتحريضهم على الأمانة في الخدمة ليكون لهم أفراداً ذكر أبدي في سفر الرب وحفظ النسب حتى يأتي المسيح من نسل داود الذي فيه تتم المواعيد. ثالثاً: امتاز هذان السفران في بيان التعليم الروحي المتضمن في الأخبار التاريخية. لا يخفى أن هذا التعليم في أسفار صموئيل والملوك ولكنه في أخبار الأيام أوضح. ومن أمثلة ذلك صلاة يعبيص «لَيْتَكَ تُبَارِكُنِي، وَتُوَسِّعُ تُخُومِي، وَتَكُونُ يَدُكَ مَعِي، وَتَحْفَظُنِي مِنَ ٱلشَّرِّ» (١أيام ٤: ١٠) وانتصار بني رأوبين والجاديين لأنهم صرخوا إلى الله في القتال فاستجاب لهم لأنهم اتكلوا عليه (٥: ٢٠) وسبيهم لأنهم خانوا إله آبائهم ... فنبه إله إسرائيل روح فول ملك أشور... فسباهم (٥: ٢٥ و٢٦) وسبى إسرائيل بالإجمال لأجل خيانتهم (٩: ١) وبيان أسباب سقوط شاول وموته فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه وأيضاً لأجل استشارته الجان وعدم استشارته الرب فحوّل المملكة إلى داود (١٠: ١٣ و١٤). وهكذا تاريخ داود وسليمان ورحبعام وجميع الملوك فإنه يمثل لنا مجازاة الرب العادلة إذ يبارك خائفيه ويسلم مخالفي وصاياه إلى أعدائهم وإلى الهلاك والدمار. والكاتب لا يترك القارئ ليستنتج هذه النتائج بل يذكرها ويوضحها فلا يمكن القارئ إهمالها.
وينقسم سفر عزرا إلى قسمين: (١) الخبر برجوع بعض اليهود من بابل بقيادة زربابل وإقامة الخدمة الدينية في أورشليم وبناء الهيكل على رغم مقاومة السامريين (ص ١ - ٦) (٢) الخبر برجوع جماعة ثانية من المسبيين بقيادة عزرا وفصل النساء الأجنبيات عن رجالهن (ص ٧ - ١٠). ولغة السفر اللغة الآرامية من (٤: ٨ إلى ٦: ١٨ و٧: ١٢ - ٢٦) لأن في هذه الآيات خلاصة أوراق قانونية مختصة بالحكومة لأن اللغة الآرامية كانت لغة المفاوضات السياسية بين مملكة فارس وعبر النهر أي ما كان إلى جهة الغرب من نهر الفرات. وباقي السفر كتب باللغة العبرانية وبين القسم الأول والقسم الثاني من السفر مدة ٥٧ سنة. ولهذا السفر اعتبار خصوصي لأن فيه خبر الرجوع من السبي وإقامة أسوار أورشليم وبناء الهيكل وتجديد الخدمة الدينية. والأسفار التي تاريخها بعد الرجوع من السبي هي عزرا ونحميا كسفر واحد بناء على قربهما الواحد إلى الآخر في الموضوع والزمان.
لهذا السفر أهمية (١) لأنه آخر أسفار العهد القديم التاريخية فهو تكملة لتاريخ اليهود (٢) لأنه يخبر بناء الهيكل الثاني وترميم أسوار أورشليم وتجديد نظام اليهود الديني (٣) لأنه يصف لنا صفات نحميا الحميدة ومنها اتكاله على الرب في كل أمر عظيماً كان أم زهيداً واتكاله أيضاً على نفسه ونشاطه وشجاعته في العمل. وكان ذكياً وفهيماً وكان بسيطاً أيضاً ومخلصاً للغاية.
إننا لا نعرف من هو المؤلف. ويظن بعضهم أنه عزرا وغيرهم أنه مردخاي. والأرجح أن تأليف السفر كان بعد أيام الملك أحشويروش بقليل من الزمان وكان المؤلف في بلاد الفرس وجمع بعض أخباره من سجلات الحكومة (١٠: ٢) ولعل المؤلف وجد في هذه السجلات ما كان مردخاي وأستير قد كتباه وفصّلاه. من فوائد هذا السفر (١) صورة امرأة فاضلة وهي قدوة ليس للنساء فقط بل أيضاً لجميع الناس. فكانت أستير طاهرة وأمينة لزوجها وطائعة لمردخاي مربيها وغيورة لشعبها اليهود وشجاعة فخاطرت بنفسها لتخلص شعبها. وكانت متواضعة مع أنها ملكة وفاقت كل النساء في جمالها وذكائها. (٢) التعليم عن عناية الله (وإن لم يُذكر صريحاً) لأنه حفظ شعبه من الهلاك وأقام لهم مخلصين عند الضيق الشديد وأمال قلب الملك إليهم وجعل الأشياء كلها تعمل معاً لهذه الغاية. (٣) يختلف هذا السفر عن غيره من الأسفار المقدسة ليكون في الكتاب المقدس ما يوافق جميع القراء على اختلاف أنواعهم.
إن أساس سفر أيوب حادثة حقيقية أي أنه كان رجل اسمه أيوب وهو رجل صالح وأصابته مصائب كما ذُكر واحتملها بصبر فصار مثالاً لجميع المصابين. ثم قام شاعر لا نعرف اسمه ولا زمانه ونظم من هذه الحادثة الحقيقية رواية شعرية مرتبة حسب قوانين الشعر والروايات. وتلك الرواية نعتبرها الآن كأحد الأسفار المقدسة القانونية وإن كنا لا نعرف اسم المؤلف.
المزامير بلا مراء من أجمل أسفار الكتاب المقدس وقلما تضارعها الأسفار الأخرى بالأهمية وسمو التعاليم والأفكار وعمقها. وهي توحد بين القديم والجديد لا سيما وإن السيد المسيح كان يأخذ الكثير من اقتباساته من هذا السفر الجليل. وتسمى بالعبرانية «تهاليم» أي تهاليل من كلمة هلل التي منها هللويا الشهيرة في كل اللغات ومعناها سبحوا الرب. فتهاليم أي تسابيح أو ترانيم أو تراتيل وما أشبه ألفت ورنمت خلال قرون طويلة وجرت على الألسنة قبل أن تُكتب. وفي أصل معنى الكلمة الشكر والاعتراف بالجميل. ويمكننا أن نقول إن هذه المزامير قد استعملت في خدمة العبادة في الهيكل قديماً للترنم بها أو قراءتها بالتبادل أو بصورة اعتيادية لأجل التأملات الروحية والصلوات الانفرادية.
يُظن أن سفر الجامعة كُتب منذ نحو ٤٠٠ سنة ق. م. في زمان مملكة فارس أو بعده قليلاً وكان ذلك الزمان زمان ظلم وانحطاط الشعب وزماناً بلا رجاء كأن الله كان رفض شعبه وترك العالم ليهلك بشرّه. وموضوع السفر متضمن في الجملة المكررة «باطل الأباطيل الكل باطل» والكاتب جمع من اختباره ومن اختبار سليمان فوائد مختلفة في هذا الموضوع. وتأثير السفر في القارئ هو اليأس أكثر من الرجاء وفائدة السفر هي أن الإنسان لا يجد في خيرات هذا العالم مهما كثرت لذة حقيقية ولا ما يشبع النفس فعليه أن يقبل بالشكر كل ما يعطيه الله وبالصبر كل ما يصيبه من البلايا ويطلب فرحه في حفظ وصايا الله ويثبت في إيمانه بالله وإن كان لا يقدر أن يفهم كل ما يعمله في العالم وموضوع السفر يشبه موضوع سفر أيوب.
هو رواية فيها ثلاثة مشخصين متقدمين وهم شولميث والراعي وسليمان. ولعل في الرواية إشارة إلى نبإ أبيشج الشونمية الجميلة التي طلبها أدونيا أخو سليمان بعد موت داود فغضب سليمان وأمر بقتل أدونيا وربما سليمان أراد أن يأخذها لنفسه (انظر ١ملوك ص ١ و٢) وكانت شولميث جملية جداً وأحبها راعي من أهل قريتها وأحبها أيضاً سليمان الملك وأراد أن يأخذها ولكنها رفضت الملك رغماً عن غناه ومجده وكلامه الفصيح وثبتت في محبتها للراعي. ومن فوائد السفر (١) لغته الجميلة الفصيحة الشعرية (٢) وصف المحبة الطاهرة الحقيقية كمحبة راعوث لحماتها ومحبة استير لشعبها (٣) فضل الزواج بامرأة واحدة بخلاف كثرة النساء كما في حريم سليمان (٤) فضل العيشة البسيطة في القرية بخلاف العيشة المرفهة والشهوانية في قصر الملك (٥) مثال المحبة المتبادلة بين الله وشعبه وبين المسيح والمؤمنين أفراداً (انظر إشعياء ٤٩: ١٤ - ٢١ و٦٢: ١ - ٥ وإرميا ٢: ٢ وهوشع ٢: ١٤ - ٢٣ و١١: ٨ و٩ ويوحنا ٣: ٢٩ و٢كورنثوس ١١: ٢ وأفسس ٥: ٢٢ - ٣٢ ورؤيا ٢١: ٢).
القصد من نبوءة إشعياء: كشف خطايا شعب اليهود على نوع خاص وتوبيخهم عليها وآثام أسباط إسرائيل العشرة ورجاسات شعوب وبلاد شتى من بلاد الأمم والإنذار بحلول قضاء شديد على كل صنف ورتبة منهم يهوداً وأمماً. دعوة البشر من كل رتبة وحالٍ يهوداً وأمماً إلى التوبة والإصلاح بواسطة مواعيد كثيرة بالصفح والرحمة. ومما يستحق الاعتبار أن نصوصه على الانتقام الإلهي من بابل لا يتخلله مواعيد كالتي وردت في تهديداته لسائر الشعوب. تعزية الأتقياء بالحق بواسطة مواعيد بالمسيح نبوية واضحة جداً كأنها تاريخ. ومن ذلك ما ورد من سجاياه الباهرة وعجائبه وفضائله ورفض اليهود إياه وآلامه بسبب خطايانا وموته ودفنه وغلبته على الموت. ومجده الأخير وتأسيس ملكوته ونموه وامتداده إلى الكمال وكل ذلك دليل على صدق الإنجيل جليٌّ قاطع.
معنى الاسم هوشع يهوه معين كالاسم يشوع والاسم يسوع. قيل إنه تنبأ في أيام عزيا وفي أيام حزقيا أيضاً فكانت مدة خدمته النبوية 20 سنة أقل ما يكون والبعض يقولون 60 سنة. ملك يربعام الثاني 41 سنة وفي زمانه ازدهت مملكة إسرائيل وأما الشعب فاستولى عليهم الكسل وطلب الراحة والكبرياء والظلم وعبادة الأوثان والرفاهية (انظر عاموس 2: 6 - 16 و6: 3 - 6 و8: 4 - 6) وبعد موت يربعام كان تشويش وانحطاط حتى سقطت المملكة إذ استولى عليها الأشوريون. وكان من وظيفة هوشع أن يظهر للشعب عظمة خطاياهم وعقابها الهائل. وأعظم خطاياهم والخطية التي نتج منها جميع الشرور هي تركهم الرب الذي كان اختارهم وأحبهم ولم يزل يحبهم. واستعداداً لهذه الخدمة أخذ هوشع بأمر الرب امرأة زنى (1: 2) لكي يختبر في أموره البيتية ما يرمز إلى خطية إسرائيل بتركهم الرب ومحبته الأبدية لشعبه فكان كلام هوشع من قلبه كلاماً مؤثراً وبالحزن والمحبة.
لا نعرف شيئاً عن هذا النبي إلا المدّون في نبوته. وأبوه فثوئيل ليس معروفاً. والأرجح أن النبي سكن أورشليم لأنه يذكر أورشليم ويهوذا ولا يذكر المملكة الشمالية (3: 1 و6 و16 و17) خاطب الكهنة (2: 17) فنستنتج أنه لم يكن كاهناً. والأرجح أن تاريخ النبوة في القرن الرابع قبل المسيح في زمان بطلميوس والدولة السلوقية فكانت هذه النبوة وقسم من نبوة زكريا ونبوة يونان آخر أسفار العهد القديم. وهذا الرأي مبني على ما يأتي ذكر صور وصيدون ودائرة فلسطين والياوانيين (أي اليونانيين) والسبائيين ومصر وأدوم بلا ذكر الآراميين والأشوريين والكلدانيين وبلا ذكر المملكة الشمالية (وانظر ما في 2: 19) «لاَ أَجْعَلُكُمْ أَيْضاً عَاراً بَيْنَ ٱلأُمَمِ» وفي (3: 2) «مِيرَاثِي إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ بَدَّدُوهُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ وَقَسَمُوا أَرْضِي». والنبوة لا تذكر عبادة الأصنام بل تذكر خدمة العبادة في الهيكل وتذكر كهنة وشيوخاً ولا تذكر ملكاً. فهذه العبارات تدل على زمان بعد الرجوع من السبي. وبجمال التصورات وفصاحة الكلام تشبه هذه النبوة نبوات إشعياء وحبقوق.
إن نبوءة عاموس هي الأولى من الأسفار النبوية وتاريخها نحو 753 ق م في زمان عزيا ملك يهوذا ويربعام الثاني ملك إسرائيل. وتقوع مدينة ليهوذا قريبة من بيت لحم وإلى الجنوب الشرقي من أورشليم وتدعى الآن تقوعة. وبناها رحبعام (انظر 2 أيام 11: 6) أي جدد بناءها وحصنها فإنها كانت موجودة في زمان داود (انظر 2صموئيل 14: 2) وموقعها في طرف البلاد الشرقي ومشرفة على برية اليهودية ولم تكن قرى مسكونة بينها وبين بحر لوط. ومنها نزلة نحو 4000 قدم إلى بحر لوط. وجوار تقوع أي برية تقوع (انظر 2أيام 20: 20) لا تصلح إلا لرعي الغنم وغنمها صغير ونحيف وغير جميل ولكن صوفه جيد ومرغوب. والجميز (7: 14) لا يوجد إلا في بعض الوديان الواطئة إلى جهة الشرق. وفي تلك البلاد المقفرة تربى عاموس واستعد لوظيفته كما استعد موسى في أرض مديان وداود في أرض بيت لحم وإيليا في جلعاد ويوحنا المعمدان في برية اليهودية وبولس في العربية. فإن أهل المدن ينظرون إلى ما هو قريب ويهتمون بما للجسد وأما أهل البادية فإلى أرض واسعة وجبال عالية وإلى السموات التي تحدث بمجد الله ولا تسد أصوات العالم آذانهم عن صوت الله في قلوبهم ولا تُلهيهم لذات العالم وهمومه عن التأمل في الروح ات. لا نرى في هذه النبوة لغة رجل بسيط بل فصاحة الكلام وإتقان الترتيب. ونستنتج أن عاموس كان يتردد إلى مدن إسرائيل لأجل بيع الصوف فكان يسمع الحديث ويلاحظ الأمور السياسية والدينية وتأثر مما رآه فيها من الشرور والانحطاط. وكان الزمان زمان نجاح زمني. فكان عزيا ملك يهوذا غنياً وقوياً «وَٱمْتَدَّ ٱسْمُهُ إِلَى مَدْخَلِ مِصْرَ» (2أيام 26: 8) وكان له ماشية وفلاحون وكرامون وبنى أبراجاً ونظم جيشاً. وكان يربعام ملك إسرائيل مقتدراً في الحرب ورد تخم إسرائيل من مدخل حماه إلى بحر العربة وبيده خلّص الرب شعبه إسرائيل (انظر 2ملوك 14: 25) ولكن كان زمان ظلم وفساد ورياء وتمسك بطقوس الدين وترك جوهره (انظر إشعياء 5: 8 - 23) وعاموس كلوط كان يعذّب نفسه البارة ما نظره وسمعه من سيرة الأردياء فشهد عليهم وكلمهم بكلام الرب بلا خوف. والأرجح أنه كتب نبوته بعدما رجع إلى بلاده.
لا نعرف شيئاً عن النبي عوبديا إلا المذكور في نبوته. ومعنى الاسم عبد الله. ويذكر الكتاب المقدس 13 شخصاً بهذا الاسم. ولا يقتبس كتاب العهد الجديد من هذه النبوة. ومضمونها أولاً انتقام الرب من أدوم من أجل ظلمهم لإسرائيل يوم سبيهم ومجيء يوم الرب على كل الأمم ونجاة شعب الله ورجوع الملك لهم. ويقول البعض أن سبي يهوذا ودخول الأجانب أبواب أورشليم المشار إليه في (ع 11) كان في أيام يهورام ملك يهوذا (انظر 2أيام 21: 16 و17) نحو سنة 850 ق م. والأرجح أنه كان عند سقوط أورشليم الأخير (انظر 2ملوك 25: 8 - 10) من الكلدانيين نحو سنة 586 ق م فتنبأ عوبديا بعد ذلك وقبل سقوط أدوم أي نحو 583 ق م.
الأرجح أن يونان هو المذكور في (٢ملوك ١٤: ٢٥) الذي تنبأ في أيام يربعام الثاني برد تخم إسرائيل إلى مدخل حماة وإلى بحر العربة. وهو من جت حافر في زبولون بقرب بحر طبرية. ولا يوجد غيره بهذا الاسم ولا غير أبيه باسم أمتاي. والأرجح أن يونان هذا هو كاتب هذا السفر مع أن الكلام في صيغة الغائب لا بصيغة المتكلم.
الاسم ميخا اختصار «مي كايهو» ومعناه «من مثل يهوه» وربما أشار النبي إلى معنى اسمه بقوله (٧: ١٨) من هو إله مثلك.
لا نعرف عن ناحوم إلا المذكور بنبوته ولا نعرف وطنه القوش. قال أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع بعد المسيح «إن ناحوم كان من القوش وراء بيت جبر من سبط شمعون» وبيت جبر هي بيت جبرين الحالية إلى جهة الجنوب الغربي من أورشليم وعلى بعد نحو ٢٥ ميلاً منها. وتاريخ النبوة هو بين ٦٢٥ و٦١٠ ق م ونبوة ناحوم تشبه نبوة يونان بما أن موضوعها نينوى وتختلف عنها لأن ليس فيها شيء من الرحمة نحو نينوى. وخطايا نينوى المذكورة في نبوة يونان هي الخطايا المذكورة في نبوة ناحوم. وكانت نينوى عاصمة مملكة أشور وهي مدينة عظيمة على ضفة نهر دجلة قبالة الموصل الحالية. وملوك أشور المذكورون في الكتاب هم فول وتغلث فلاسر وشملناسر وسرجون وسنحاريب وأسرحدون واسم الملك الأخير سنشار شكن وباليونانية سراقس وفي أيامه قام عليه الماديون فحاصروا مدينة نينوى ثلاث سنين ولم يقدروا عليها بسبب علو أسوراها ومتانتها وبالآخر فاضت مياه نهر دجلة وطمت وجرفت جانباً من الأسوار وسقطت المدينة وقيل أن الملك سراقس لما أيقن هلاكه جمع نساءه في قصره وشب فيه النار فاحترقن جميعهن وكان ذلك نحو سنة ٦٠٧ ق م وانتقلت السلطة إلى بابل وفي القرن التاسع عشر اكتشف بعض العلماء آثار نينوى فوجدوا تماثيل وصوراً كثيرة وكتابات تاريخية. والبعض من هذه التماثيل تشخص حيوانات مركبة من جسم ثور وجناحي نسر ورأس إنسان فتشير إلى القوة والسرعة والفهم. وتُذكر بهذه الكتابات أمور كثيرة توافق أخبار الكتاب المقدس وتساعد في تفسيره.
لا نعرف عن حبقوق شيئاً غير المذكور في نبوته. ومعنى الاسم «المعانق» لأنه كان كيعقوب يصارع الله بالصلاة. والنبوة على سبيل محاورة فيتكلم النبي ثم يجاوبه الرب. ويُظن أنه كان لاوياً وله خدمة التسبيح في الهيكل بناء على ما ورد في ٣: ١٩ «لِرَئِيسِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى آلاَتِي» والأرجح أنه تنبأ في ملك يهوياقيم وقبل سقوط أورشليم بنحو ١٥ سنة. وفي إرميا ص ٢٢ وصف أحوال مملكة يهوذا الروحية والأدبية وأعمال الملك الشريرة. قيل في إرميا ٢٢: ١٣ - ١٨ إنه بنى بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق واستخدم صاحبه مجاناً ولم يعطه أجرته فإنه بنى لنفسه بيتاً وسيعاً وعيناه وقلبه ليست إلا على الخطف والدم الزكي ليسفكه وعلى الاغتصاب والظلم. وكما كان الملك هكذا كان عظماءه الظالمون. ومضمون النبوة يدل على أنها كانت قبل قدوم الكلدانيين بمدة قليلة (١: ٦) وموضوع السفر الأساسي مذكور في ٢: ٤ «ٱلْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا». بحث النبي في سلامة الأشرار وأتعاب الصالحين. وبعدما عجز عن معرفة هذا السر التجأ إلى الرب فوجد مطلوبه بإيمانه «فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِٱلرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلٰهِ خَلاَصِي» (٣: ١٨).
معنى الاسم صفنيا «يستره يهوه» وبخلاف العادة في الأنبياء فإن سلسلة نسبه مذكورة إلى الجيل الرابع والمظنون أن الغاية من ذلك البيان بأنه من نسل الملك حزقيا. وتنبأ في أيام يوشيا. كان يوشيا ابن ثماني سنين حين ملك وفي السنة الثامنة من ملكه ابتدأ يطلب الرب وفي السنة الثانية عشرة ابتدأ يطهر يهوذا وأورشليم من نجاسات عبادة الأصنام. وصفنيا يذكر بقية البعل (١: ٤) والساجدين على السطوح لجند السماء والحالفين بملكوم فالأرجح أنه تنبأ قبل ما ابتدأ يوشيا في إصلاح المملكة أي قبل السنة الثانية عشرة. والنبي يذكر بالاختصار أحكام الله من أيامه إلى انقضاء الدهر وكلامه الافتتاحي مبني على حادثة الطوفان (تكوين ٦: ٧) «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ ٱلأَرْضِ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي خَلَقْتُهُ: ٱلإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ الخ» ويشير إلى اليوم الأخير (٢بطرس ٣: ١٠) «تَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» وقول المسيح (متّى ١٣: ١٤) «يَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي ٱلإِثْمِ» و«المعاثر مع الأشرار» أي الأوثان والساجدين لها. ويبتدئ النبي من يهوذا وأورشليم (ع ٤) (انظر إرميا ٢٥: ١٧ - ٢٩) حيث النبي إرميا سقى الأمم من كأس سخط الرب مبتدئاً من أورشليم.
بعد رجوع اليهود من سبي بابل كان ثلاثة أنبياء وهم حجي وزكريا وملاخي ولعل حجي كان متقدماً في العمر بتاريخ نبوته لأنه في (2: 3) يذكر الهيكل الأول الذي هدم قبل تاريخ النبوة بنحو 66 سنة. ومن أول النبوة إلى آخرها مدة نحو أربعة أشهر (1: 1 و2: 10 و20). وابتدأ زكريا في خدمته قبلما انتهي حجي. ولا شك أن حجي تكلم وعلّم أموراً كثيرة غير المذكورة في نبوته هذه المختصرة. ونَفَسه نَفَس واعظ وليس نَفَس شاعر وغايته أن يحرّض الشعب على بناء الهيكل. كان نداء كورش من جهة رجوع اليهود من بابل إلى بلادهم في سنة 537. ولم يرجع جميعهم بل بقي أكثرهم في مملكة بابل حيث كان لهم بيوت وجنات وولد لهم بنون وبنات وجمعوا مالاً (انظر إرميا 29: 5 - 7) وعدد الذين رجعوا كان 42360 (انظر عزرا 2: 1 - 70) ولم يكونوا فقراء وأكثرهم من سبطي يهوذا وبنيامين. وكان لهم رئيس ملة شيشبصر ورئيس روحي يهوشع.
معنى الاسم زكريا من يذكره الله. وفي العهد القديم ٢٩ شخصاً بهذا الاسم. وأتى جده عدو من بابل مع زربابل (نحميا ١٢: ٤ - ٦) والأرجح أن أباه برخيا مات شاباً ولم يتقلد وظيفة كاهن. وزكريا وحجي حرّضا الشعب على بناء بيت الرب (انظر عزرا ٥: ١ و٦: ١٤) (انظر تفسير حجي ١: ١). زكريا هذا ليس المذكور في (٢أيام ٢٤: ٢٠ - ٢٣ وفي متّى ٢٣: ٣٥) والأرجح أن القول «ابن برخيا» في (متّى ٢٣: ٣٥) ليس بالأصل بل هو زيادة تفسيرية من ناسخ. وتقسم نبوة زكريا إلى ثلاثة أقسام (١) رؤى (ص ١ - ٦) (٢) جواب النبي على أسئلة من الشعب (ص ٧ و٨) (٣) ذكر بعض الأمم الذين يقاومون شعب الله وغلبة شعب الله عليهم وإقامة ملكوت المسيح. و(الأصحاحات ٩ - ١٤) تختلف عما سبقها فيظن كثيرون من أحسن المفسرين أنها من مؤلف آخر وكُتبت بعد زمان زكريا. سيأتي كلام في ذلك في تفسير الأصحاح التاسع.
لا نعرف عن ملاخي إلا المذكور في نبوته ولا يوجد غيره بهذا الاسم في العهد القديم وربما ملاخي اختصار ملاخيا أي ملاك الرب أو مرسل الرب. ع ٣: ١ «هَئَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي» فيظن البعض أن كاتب هذا السفر نبي مجهول اسمه ومعنى عنوان السفر «وحي كلمة الرب لإسرائيل عن يد من دعاه الرب مرسلي». وتقليد بعض اليهود أن عزرا هو الكاتب ومضمون السفر ونفسه يوافقان هذا الرأي ولكن لا يثبتانه.
الكنز الجليل في تفسير الانجيل
كتب هذه البشارة رجل يهودي من الجليل اسمه متى، وهو لاوي بن حلفي (مر 2: 14) استوطن كفرناحوم وكان عشاراً، أي جامع الضرائب للرومان. دعاه المسيح وهو يمارس وظيفته (مت 9: 9). وتستحق هذه البشارة أن تُسجَّل قبل غيرها في العهد الجديد، لأنها توضح العلاقة بين العهدين القديم والجديد، أي بين الشريعة والإنجيل.
الأرجح أن تلك البشارة كُتبت لقراء الرومانيين مع أنها كتبت باللغة اليونانية. أن هذه البشارة تمتاز عن بقية البشائر بأنه لم يُذكر فيها سوى قليل من مواعظ المسيح بالنسبة إلى ما ذكره غيره منها. هذه البشارة امتازت عن سار البشائر ببذل كاتبها عنايته في بيان أسماء الأشخاص والأماكن والازمنة والعدد حتى يتمكن القارئ أن يتصور ما ذكره مرقس كأنه حدث أمامه.
كاتب هذه البشارة لوقا واسمه هذا مختصر لوقانوس أو لوسليوس. ذُكر في الرسائل ثلاث مرات (كولوسي 4: 14 و2تيموثاوس 4: 11 وفليمون 24). وهو كاتب سفر أعمال الرسل. قال بعضهم أنه لم يكن يهودياً أصيلاً بل ممن هادوا من الأمم وسُموا دخلاء لأن بولس عندما ذكر أصحابه في رومية الذين من الختان أصلاً والذين ليسوا من الختان كذلك لم يذكر لوقا مع الأولين بل ذكره مع الآخرين (قابل كولوسي 4: 11 مع كولوسي 4: 14). ولنا عدة أدلة على أنه كان دخيلاً. منها أنه كان عالماً بكل عوائد اليهود وطقوسهم. ومنها أن اليهود عندما هيجوا الشعب على بولس في أورشليم إنما أتوا ذلك لأنه أدخل معه واحداً من الأمم وهو تروفيموس الأفسسي (أعمال 21: 27). ولكن لوقا كان معه ولم يعترض أحد عليه بشيء من شأنه ولو لم يكن دخيلاً مختتناً لم يسكتوا عنه. وكان طبيباً كما ظهر من قول بولس لأهل كولوسي (كولوسي 4: 14) ولم يكن شاهد عين بما ذكره في إنجيله ولا خادماً للإنجيل من أول انتشاره بدليل ما جاء في كلامه (لوقا 1: 2) وإلا كان قد بنى ما ذكره على مشاهدته.
أجمعت الكنيسة المسيحية على أن كاتب هذه البشارة يوحنا الرسول. وهو ابن زبدي وسالومي. لم يكتب يوحنا هذه البشارة لمخصوصين من اليهود أو الرومانيين أو اليونانيين بل للمؤمنين بالمسيح من كل أمة لكي يثبتهم بيسوع ابن الله نور العالم وحياته كما يظهر من قوله «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31). ولم يذكر في هذه البشارة الضلالات التي كانت قد دخلت في الكنيسة يومئذ لكنه وجه كلامه إلى إبطالها.
كاتب هذا السفر لوقا كاتب البشارة الثالثة. غاية هذا السفر بيان أن المسيح أنجز وعده بإرسال الروح القدس بإنشاء الكنيسة ومدها بين اليهود والأمم في المملكة الرومانية مبتدأة من أورشليم منتشرة من مدينة إلى مدينة في تلك المملكة حتى بلغت رومية. كُتب هذا السفر إلى ياثاوفيلوس وهو رجل شريف يوناني عالم مؤمن بالمسيح. والأرجح أنه كُتب أيضاً لفائدة المؤمنين من اليهود والأمم عامة. وإنما قدمه لذلك الرجل إكراماً كالعادة الجارية عند المؤلفين يومئذ وفي هذه الأيام. من فوائد هذا السفر غير ما ذكرناه في غاية كتابته ونسبته إلى ما كُتب قبله وما كُتب بعده من العهد الجديد تاريخ كنيسة المسيح في طفوليتها وكيفية نشوئها وانتظامها وكيفية تحرر أعضائها رويداً رويداً من رق الطقوس اليهودية وتمتعهم بحرية الديانة المسيحية وروحيتها. ومنها بيان ما ألمّ بالكنيسة من مقاومة اليهود والأمم في بعض عصر طيباريوس الأمبراطور الروماني وكل عصر كليغولا وكلوديوس وبعض أيام نيرون وانتصارها على كل ذلك. ومنها بيان أهمية المناداة بقيامة المسيح لإثبات صحة الديانة المسيحية كما يظهر من مواعظ الرسل وتأثيرها في السامعين. ومنها زيادة ما فعله الأقنوم الثالث أي الروح القدس في عمل الفداء. فيحسن أن نسمي العهد القديم أعمال الآب والبشائر أعمال الابن وهذا السفر أعمال الروح القدس بواسطة الرسل؟ وفيه من أقوى الأدلة على صحة الدين المسيحي سرعة انتصارات ذلك الدين وعظمتها مع كثرة المقاومين وقوتهم وقلة المسعفين وضعفهم.
كان بولس قد قصد الذهاب إلى رومية منذ زمن طويل لكنه امتنع لأسباب (رومية 1: 13) وهو يتوقع المصير إليها بعد قليل فمهد السبيل بكتابة هذه الرسالة ولم يكن من داع إلى أن يكتبها لإزالة الشكوك أو لرفع الخصومات كما كان الداعي إلى ما كتبه إلى كنيسة كورنثوس وكنيسة غلاطية فإنه لعدم معرفته إياهم بسط أمامهم مختصر تعاليمه التي نادى بها في غير رومية وأوضح به مبادئ الإنجيل العظمى الجوهرية مما يجب أن يعتقدوه ويختبروه ويعملوا بموجبه. موضوع معظم هذه الرسالة جواب هذا السؤال كيف يتبرر الإنسان أمام الله.
كُتبت هذه الرسالة في ربيع سنة 57 ب. م. في أفسس قرب نهاية السنين الثلاث التي أقام فيها بولس بها وقرب حدوث الشغب هناك وذهابه إلى مكدونية (أعمال 18: 23-20: 1 و1كورنثوس 16: 8) وكُتبت قبل الرسالة إلى الرومانيين بسنة. غايات هذه الرسالة سبعٌ: 1. منع الانشقاق والتحزب في الكنيسة (ص 1: 1-16) وبيان أن ذلك لا يوافق نسبتهم إلى المسيح ولا نسبة بعضهم إلى بعض وأن علته الاتكال على الحكمة البشرية ودفع الرسول قول البعض أنه ليس رسولاً ولا فصيحاً ولا عالماً (ص 1: 17-30 و2: 1-16) وتبيينه أن غرضه الوحيد من المناداة بالإنجيل أن يبشر بيسوع المسيح مصلوباً (ص 3 وص 4). 2. حث الكنيسة على أن تقطع من شركتها من ارتكب أفظع الرذائل وتوبيخها على تركها تأديب مثل هذا (ص: 5: 1-13). 3. نهيهم عن المحاكمة عند الأحكام الوثنيين (ص 6: 1-11). 4. وجوب العفة والتحذير من الفجور (ص 6: 12-20). 5. جواب الرسول على مسائل سألته الكنيسة إياها 6. بيان التعليم الحق في المعاد الجسماني (ص 15). 7. جمع الإحسان لفقراء أورشليم (ص 16).
كُتبت هذه الرسالة بعد بضعة أشهر من كتابة الرسالة الأولى لأنه كتبها في أثناء ذهابه من أفسس إلى كورنثوس فقال «أَمْكُثُ فِي أَفَسُسَ إِلَى يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ» وقال «وَسَأَجِيءُ إِلَيْكُمْ مَتَى ٱجْتَزْتُ بِمَكِدُونِيَّةَ، لأَنِّي أَجْتَازُ بِمَكِدُونِيَّةَ. وَرُبَّمَا أَمْكُثُ عِنْدَكُمْ أَوْ أُشَتِّي أَيْضاً» (1كورنثوس 16: 5-8). ولعله ذهب قبل ذلك الوقت لما وقع من السجس هنالك ومكث في ترواس مدة يسيرة رغبة في لقاء تيطس (2كورنثوس 2: 12). ثم زار كنائس مكدونية المشهورة وكتب هذه الرسالة في إحداها في صيف السنة التي كتب فيها الرسالة الأولى أو في خريفها والأرجح أن تلك السنة سنة 57 ب .م وذهب على أثر ذلك إلى كورنثوس وأقام بها ثلاثة أشهر. كان بولس في شديد الهم من جهة تأثير رسالته الأولى في الكنيسة لأنه وبخهم فيها على خصوماتهم وعدم إجرائهم التأديب اللازم وعلى ما ارتكبوه من التشويش في العبادة. وكان قد أرسل تيطس إلى كورنثوس لكي يخبره بتأثير الرسالة وأحوال الكنيسة وبعد ما انتهى الشغب في أفسس تركها وذهب إلى ترواس راجياً أن يجد تيطس هناك ولما لم يجده عزم على أن يعبر البحر إلى مكدونية (2كورنثوس 2: 12). وبقي هناك حزيناً خائفاً إلى أن جاء تيطس وبشره بما عزاه كثيراً وهو إن أكثر الكنيسة قبل نصحه في رسالته وأجرى ما أمر به (ص 1: 13 و14 و7: 9 و15 و16). وأخبره أيضاً بأنه بقي بعض الكنيسة يرفض سلطانه الرسولي واتهمه بالتقلب وضعف العزم (ص 1: 17). واغتابوه وعابوه بحقارة منظره وخطابه وبأنه لا يجسر على إتيان ما أنذرهم به من القصاص (ص 13: 2 و3) إلى غير ذلك من الظعن والتعريض مما الغاية منه إضعاف تعليمه وإبطال دعواه (ص 10: 1 و10 و11: 22). وكان قد قصد أن يرسل تيطس مع غيره لإكمال جمع الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم (ص 8: 16-22) ولعله هو الذي حمل هذه الرسالة إليهم.
كاتب هذه الرسالة بولس الرسول بدليل قوله في بدء الرسالة «بُولُسُ، رَسُولٌ... إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ» (غلاطية 1: 1 و2). ومما يؤيد ذلك أن أسلوبها كأسلوب سائر رسائله المعلومة واتفاق مؤرخي الكنيسة على ذلك من أول قرونها ونستبهم ما اقتسبوه منها إليه. مضمون هذه الرسالة أمران الأول محاماة الرسول عن سلطته الرسولية والثاني إثبات تعليمه الإنجيلي وإبطال تعليم متنصري اليهود القائلين بوجوب القيام بالرسوم الموسوية. وتنفسم هذه الرسالة إلى ثلاثة أقسام: الأول: تاريخي شخصي يثبت فيه الرسول دعوة المسيح إياه ليكون رسولاً ومختصر تصرفّه منذ آمن وذلك نحو عشرين سنة وإعلانه له التعليم الإنجيلي وشهادة سائر الرسل له في المجمع الأورشليمي (ص 1: 1-ص 3: 4). الثاني: تعليمي احتجاجي وفيه يثبت تعليم الإنجيل أن التبرير مجاني بواسطة الإيمان الحي بالمسيح وإبطال التعليم الكاذب الذي يوجب القيام بالرسوم الناموسية وأن أصحاب هذا التعليم يبدلون المسيح بموسى. الثالث: عملي يحثهم فيه على الثبوت في الحرية المسيحية وعلى إظهار المحبة الأخوية والاتحاد والتواضع وطول الأناة ويختم الرسالة بالبركة الرسولية. وخلاصة هذه الرسالة كخلاصة الرسالة إلى رومية وهي إثبات التبرير بالإيمان بدون أعمال الناموس. وتختلف الرسالة إلى الغلاطيين عن الرسالة إلى الرومانيين بأمرين: الأول: إن تعليم التبرير بالإيمان في الأولى على طريق المناظرة وفي الثانية على سبيل التعليم البسيط. الثاني: إن الرسول في الأولى يبطل الاتكال للتبرير على أعمال الناموس الموسوية وفي الثانية يبطل الاتكال لذلك على أعمال الناموس مطلقاً وأثبت في كليهما أن التبرير بالإيمان بالمسيح.
أجمع علماء الدين المسيحي على أن هذه الرسالة كتبت إلى مؤمني أفسس على ما نص في الآية الأولى وذهب أكثرهم إلى أن بولس قصد بها أيضاً إفادة الكنائس المجاورة لها ويؤيده أنه لم يسلم الرسول فيها على أحد في أفسس باسمه مع أنه كان له أصحاب كثيرون هناك لأنه كان قد أقام بها زماناً طويلاً يبشر بنجاح عظيم فلو كانت إلى مؤمني أفسس خاصة ما حسن إلا أن يسلم عليهم وأنه لا أدنة إشارة في الرسالة إلى أحوال كنيسة أفسس خاصة وأنه اقتصر فيها على مخاطبة متنصري الأمم دون متنصري اليهود. فالمرجح على ما في الآية الأولى أن الرسول قصد أولاً الأفسسيين ولا سيما متنصري الأمم بينهم وأنه كتبها على أسلوب يوافق سائر الكنائس المجاورة لهم وأراد أن تُرسل إليها ولذلك لم يكتب فيها تحية لأحد واستغنى عن ذلك بأن وكل إلى تيخيكس حامل هذه الرسالة أن يسلم عليهم شفاهاً.موضوع هذه الرسالة الكنيسة المسيحية باعتبار كونها جسد المسيح وواسطة إظهار نعمة الله وأمجاد عمل الفداء لكل الخليقة. وكلام الرسول على ذلك الموضوع قمسان الأول تعليمي أعلن فيه أن الكنيسة مختارة في المسيح ومفدية بدمه ومتحدة به ومكملة منه (ص 1: 3-ص 3: 21) والثاني عملي أُعلن فيه ما يجب على أعضاء الكنيسة وهو أن يكونوا مقدسين متحداً بعضهم ببعض سالكين كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح الذي أُنقذوا من حال الوثنية الدنسة وارتقوا إلى مقام بنوة الله السامية (ص 4 و5 و6). ومضمونها بعد العنوان والتحية العامة ثمانية أمور: الأول: تقديم الشكر لله الآب على أنه قد اختار الكنيسة بمقتضى القصد الأزلي أن تكون مقدسة محبوبة ومفدية بابنه يسوع المسيح ومتحدة به باعتبار كونه رأسها الحي ومشتملة على اليهود والأمم معاً كجسد واحد في المسيح. وفي ذلك الاختيار وهذا الاتحاد سر مجيد أُخفي عن الأجيال الغابرة وأُعلن الآن وأن لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس يداً في إنجاز ذلك القصد (أي أن الله الآب اختار الكنيسة والابن أجرى قضاءه بعمل الفداء والروح القدس جعله مؤثراً في المؤمنين) وإن كل ذلك صدر عن نعمته العظيمة (ص 1: 3-14).الثاني: صلاة من أجل زيادة معرفتهم باتحادهم بالمسيح والبركات المتوقفة على موته وقيامته وتمجيده (ص 1: 15-23). الثالث: دعوة الأمم لكي يشتركوا بواسطة الإيمان بالمسيح في الفداء الذي اشتراه بنفسه. ووصف ذلك الفداء بكونه نجاة من الموت بالخطيئة وسلطة الشيطان وأنه منح لهم حياة جديدة في المسيح وقوة لكي يمارسوا أعمالاً صالحة (ص 2: 1-10) وإنه بواسطته اتحد الأمم بشعب الله المختار قديماً إذ نقض سياج الحائط المتوسط لكي يكون لكليهما حق الاقتراب إلى الله ويكون هيكلاً حياً مبنياً على أساس واحد (ص 2: 11-22). وإن بولس وُكل إليه خصوصاً إعلان هذا السر (سر اتحاد الأمم باليهود في كنيسة الله) الذي لم يعرف قبلاً سوى معرفة جزئية ولكن روح الله أعلنه كل الإعلان بواسطة رسله وأنبيائه «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (ص 3: 1-13) الرابع: الصلاة من أجل الكنيسة لكي تدرك ذلك السر تمام الإدراك وأن تقبله بالإيمان متأصلة ومتأسسة في المحبة وتمتلئ بكل ملء الله (ص 3: 14-19) وختم القسم التعليمي بالتسبيح لله والشكر له على نعمته بيسوع المسيح (ص 3: 20 و21) الخامس: (وهو بداءة القسم العملي أي الثاني من قسمي الرسالة) حث المؤمنين على أن يسلكوا كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح متذكرين أن الكنيسة مع أنها مؤلقة من اليهود والأمم جسد واحد مملوء بروح واحد وخاضعة لرب واحد ولها إيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد للكل وعلى الكل وبالكل وفي الكل (ص 4: 1-6). ولا منافاة بين كون الكنيسة واحدة وكون إعطاء بعضها مواهب وأعمالاً مختلفة ضرورية لبنيان جسد المسيح الواحد وتكميله (ص 4: 7-16) السادس: حثهم على القيام بالواجبات المختصة بالذين يسلكون حسب الروح وأن يعتزلوا الخطايا التي اعتادوها يوم كانوا وثنيين ولا سيما شهوات الجسد والكذب والغضب والانتقام والخداع والنجاسة قولاً وفعلاً وأن يسلكوا كأولاد نور ويجتهدوا في أن يعملوا صلاحاً شاكرين الله مسبحين لاسمه بأغانٍ روحية (ص 5: 1-21) السابع: تعيين واجبات مسيحية خاصة منها واجبات النساء لرجالهن وواجبات الرجال لنسائهم باعتبار نسبة الرجل إلى امرأته كنسبة المسيح إلى كنيسته (ص 5: 22-33). وواجبات الأولاد والآباء (ص 6: 1-4) وواجبات العبيد والسادة (ص 6: 5-9). الثامن: الخاتمة وفيها نصيحته الاخيرة وهي أن يتقووا في الرب لكي يجاهدوا شديد جهادهم ويحاربوا قوات الظلمة وجنود الشر لابسين أسلحة البر (ص 6: 10-17). وطلب أن يصلوا من أجله (ص 6: 21 و22) والوداع والبركة (ص 6: 23 و24).
لم تكن غاية هذه الرسالة دفع الضلالات في التعليم كما كانت غاية رسالته إلى الغلاطيين ولا إصلاح الخلل في السلوك كما كانت غاية الرسالة الأولى إلى كورنثوس ولا تعليم شيء في ما يتعلق بنظام الكنيسة مع أنه فيها بعض أسماء خدم الكنيسة ولا نظم قواعد الإيمان مع أنه ذكر جلال المسيح وتواضعه وأشار إلى الفرق بين الناموس والنعمة. فالغاية إظهار محبته المسيحية وشكره على ما أتاه الفيلبيون في تلك الأثناء من العطايا التي كانت علامة اعتبارهم إياه وسداً لعوزه في السجن إذ لم يكن يستطيع العمل كعادته لإعالة نفسه وإظهار عواطفه لهم كما أظهرها لأهل تسالونيكي في رسالته الأولى إليهم. ومما جعله ممنوناً لهم أكثر ما كان ممنوناً لأهل تسالونيكي أنهم أظهروا مراراً كثيرة قبل ذلك عنايتهم بحاجاته الجسدية. وأراد أن ينبئهم بما يطمئنون به من أمره علاوة على إعلان شكره لهم على عنايتهم به وبيان أنه لم ييأس لكثرة ضيقاته وأخطاره بل إنه يتحقق نجاح الإنجيل بواسطة ذلك وبغية أن يجعلهم مطمئنين من جهة رسولهم أبفرودتس الذي لفرط خدمته إياه اعتراه مرض شديد وكان حينئذ قد أبلّ من مرضه وبيان ممنونيته لهم على عناية رسولهم به وإنكاره نفسه وتعرضه للخطر في سبيل خدمته وتثبيتهم في الشجاعة والإيمان في الاضطهادات والضيقات التي كانت عليهم وحثهم على الاتحاد والتواضع متمثلين بالمسيح. وفي كلامه على تواضع المسيح أتى بما ليس في الإنجيل أوضح منه من الكلام على تجسد المسيح وآلامه وارتفاعه. ثم دعاهم إلى الفرح ونبههم على وجوب أن يكون فرحهم في الرب وحذرهم من أن يدخل بينهم المعلمون الماثلون إلى الرسوم اليهودية القائدون لهم إلى الاتكال على الأمور الحسية الدنيوية فحثهم على أن يتكلموا على المسيح وحده وأن يتقدموا في الحياة الروحية متوقعين ثواب يوم القيامة العظيم. ولم يذكر في هذه الرسالة شيئاً من الملامة إلا حين أشار إلى الاختلاف بين امرأتين من الكنيسة سماهما وطلب أن تتفقا وسأل مساعدة شريكه واكليمندس على ذلك. ثم دعاهم أيضاً إلى الفرح والاتحاد والثبات والحلم والقناعة وممارسة الفضائل المسيحية وكرر شكره لهم على كرمه عليه. وختم رسالته بالسلام والبركة. وهذه الرسالة رقيم من صديق إلى أصدقائه في الرب كتبه أسيراً في وحدته وضيقته وريبه في مستقبله وأوضح فيه رقته عليهم بدون التفات إلى ترتيب المواضيع بدون الاقتباس من العهد القديم وإيراد البراهين على صحة تعليمه. وهي تزيد اعتبارنا لكاتبها لشفقته على أولاده الروحيين وشجاعته في الخطر وغيرته للمسيح وإنجيله وهي تشهد لقوة الإيمان المسيحي بأنه يعضد النفس في أشد الخطوب.
موضوع هذه الرسالة عظمة الرب يسوع المسيح وكمال ما أتى به من الفداء وأنه صورة الإله غير المنظور وأنه فيه حل كل ملء اللاهوت منذ الأزل وأنه خالق كل البرايا وأنها به تقوم وأنه رب كل ما في السموات والأرض مما يرى ومما لا يرى وإن كل المسيحيين متحدون بالمسيح وحده اتحاد الأعضاء بالرأس. وأنه به صالح الكل لله وأنه به ينال المؤمنون السلام والحياة والخلاص والسعادة ويحصلون على كل الفضائل والنعمة ليستطيعوا إتمام كل الواجبات وذلك يكون بواسطة الإيمان به والطاعة والشركة معه والصلاة له حتى يكون المسيح لهم وفيهم. والغاية من بيان عظمة المسيح وكمال عمله هي التحذير من بعض الضلالات التي هي خليط من الفسلفة اليونانية والأوهام اليهودية المعروفة بتاريخ الكنيسة ببدع الغنوسيين. فإنهم اعتقدوا وجود كائنات روحية بين الله والبشر تستحق العبادة وقالوا بأنها دون الله وأعظم من سائر الملائكة والناس وأنها هي التي أبدعت المادة التي هي علة الخطيئة. وأن نيل القداسة يكون بقهر الجسد وإماتته وأنه يجب أن يحفظ بعض الرسوم اليهودية من تقديس السبوت والأهلة والتمييز بين الأطعمة وتحريم أكل اللحم والزيجة. ولذلك حذرهم الرسول من الفلسفة الباطلة والسلوك بمقتضى المبادئ العالمية والتقاليد اليهودية والنوافل كزيادة التواضع وفرط إماتة الجسد وعبادة الملائكة وغير ذلك من تعاليم الباطنيين والأسينيين. والأسينيون (وهم فرقة اليهود أشد من الفريسيين تمسكاً بالرسوم الموسوية) احتقروا الزيجة وامتنعوا عن تناول اللحوم ونهوا عنها كل إنسان بقولهم «لا تمس ولا تذق ولا تجس» فأبان الرسول دفعاً لهذه البدع عظمة فضل المسيح على كل الكائنات وأنه أكمل عملاً كافياً للتطهير والتقديس وأن الإنسان بواسطة المسيح يموت للعالم (فلا يحتاج إلى أن يميت الجسد على ما رأوا) ويقوم مع المسيح للحياة الروحية والطهارة والقداسة. ومما يستحق الاعتبار واللالتفات إليه أن ليس في هذه الرسالة اقتباس وإثبات من العهد القديم ولا توبيخ للمؤمنين على سوء معاملتهم في الأدب أو في نظام الكنيسة كما جاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. نعم إن فيها تحذيراً من الخطايا التي بين الأمم لكن لا دليل على أن مؤمني كولوسي سقطوا فيها.
إن الذي دعا بولس إلى كتابة هذه الرسالة كونه ترك تسالونيكي فجأة لسبب هياج اليهود عليه فلم يكن له من فرصة ليعلم المؤمنين شفاهاً ضروريات الدين المسيحي وتوقع أنه يرجع إليها سريعاً فلم يستطع (ص 2: 18) فرأى أن يبلغهم بالكتابة ما فاتهم بالكلام وخاف أن شدة اضطهاد اليهود إياهم تحملهم على الارتداد وهم حديثو الإيمان فقصد أن يعزيهم ويشجعهم ليثبتوا. إنه كان قد أرسل تيموثاوس إليهم لفرط اهتمامه بهم لكي يأتيه بإنبائهم (أعمال 17: 16 وص 3: 1). فرجع إليه بالخبر الذي أنعش روحه (ص 3: 6) فكتب إليهم ليعلن سروره بما سمعه من أنباء ثبوتهم وتقدمهم. والظاهر أن تيموثاوس أخبره أيضاً بما نشأ عندهم من النقائص فأخذ بولس يكتب إليهم بغية إصلاحهم. وحزن بعضهم حزناً مفرطاً على موتاهم ويئسوا من رؤيتهم أيضاُ فعزاهم وأكد لهم أن الراقدين هم مع المسيح وأنهم سيجتمعون بهم أيضاً.
غاية بولس من كتابة هذه الرسالة إصلاح الخطإ الذي وقعوا فيه من جهة وقت مجيء المسيح ثانية وقد نشأ ذلك الغلط من سوء فهمهم ما كتبه في الرسالة الأولى وإصلاح ما نشأ منه من الخلل. لأنهم استدلوا بقوله «نحن الأحياء الباقين» إن يوم الرب على وشك المجيء وأنه لا داعي إلى السعي في أعمالهم المعتادة فتركوها وسلكوا بلا ترتيب. وبلغ نبأ ذلك إلى بولس من تيموثاوس الذي أرسله ليفتقد أحوالهم فرأى من الضرورة أن يوضح لهم كالإيضاح إن يوم الرب ليس كما توهموا من قربه مع وجوب أن ينتظروه كل حين ويستعدوا له ولكن لا بد من أن يسبق ذلك بعض الحوادث قأبانها بروح النبوة وقال إنها ابتدأت تحدث يومئذ ولكن الرب لا يأتي قبل أن تبلغ حدها. وذكر مع طلب الإصلاح أموراً تنشئ لهم التعزية في ضيقاتهم والتثبيت لهم في الإيمان وتحثهم على الاستقامة والاجتهاد وتجنب البطالة والسلوك بلا ترتيب.
ذُكر الداعي إلى كتابة هذه الرسالة في أولها وهو أن بولس وكَلَ العناية بالكنيسة إلى تيموثاوس وهو يتوقع الرجوع إليه سريعاً ولكنه خيفة أن يُعاق أكثر مما توقع كتب هذه الرسالة في ما رآه ضرورياً أن ينبئه به مدة غيابه (1تيموثاوس 3: 14 و15). وغايته منها تنشيط تيموثاوس وتعليمه إياه واجباته. ومعظم هذا التعليم أمران: الأول إبطال البدع المضلة التي دخلت كنيسة أفسس وأخذت تنتشر فيها واهتم الرسول بها كثيراً. والثاني ما يتعلق بسياسة الكنيسة من جهة تعيين رعاتها وشمامستها واختيار الأرامل اللواتي يُوزع عليهن صدقات الكنيسة وتأديب المجرمين في الكنيسة. ولا ريب في أن الروح القدس ألهم بولس أن يكتب هذه الرسالة لكي تنفع كل الرعاة في شأن تعليم الرعايا وسياستها.
قيل في هذه الرسالة أن الداعي إلى كتابتها أن يأتي تيموثاوس إليه سريعاً مصحوباً بمرقس لغياب من كان يعتمدهم (ص 1: 4 و4: 9 - 12 و21). وكان في ريب من مستقبله متردداً بين أن يرى ابنه في الإيمان أيضاً وأنه يموت قبل وصوله إليه لذلك كتب له وصايا أبوية موافقة لمقتضى الحال معظمها حثه إياه على الثبات والأمانة.
الذي كُتبت هذه الرسالة إليه تيطس وكل ما نعلمه من أمره علمناه من هذه الرسالة ومما كتب في (2كورنثوس 2: 12 و13 و7: 6 و13 و24 و8: 6 و12: 18 وغلاطية 2: 1 - 3 و2تيموثاوس 4: 16). والذي علمناه أنه كان من الأمم ولعله وُلد في أنطاكية واهتدى إلى الإنجيل بواسطة بولس لأن بولس دعاه «الابن الصريح» (تيطس 1: 4). ولما آمن أخذه بولس معه ومع برنابا إلى أورشليم سنة 50 ب. م باكورة الإنجيل من الأمم وأبى أن يختنه إجابة لطلب مؤمني الكنيسة هنالك تأييداً لحرية الإنجيل. وبعد ذلك حمل رسالة بولس الأولى إلى كنيسة كورنثوس وكان بولس يتوقع رجوعه إليه بجواب الرسالة وهو في ترواس على غاية الرغبة في ذلك وإذ لم يستطع أن يحتمل الانتظار ذهب إلى مكدونية ليلاقيه ثم أرسله من هناك بالرسالة الثانية إلى كورنثوس وأمره بإتمام جميع الإحسان فيها لفقراء أورشليم. ولم يذكر لوقا اسمه في سفر الأعمال لكن يظهر من هذه الرسالة أنه رافق بولس في سفره إلى كريت وأنه تركه هنالك لكي يتمم العمل الذي ابتدأه الرسول فيها. وحين كتب بولس رسالته الثانية إلى تيموثاوس (2تيموثاوس 4: 10) كان تيطس في دلماسية والمرجح أنه ذهب إلى هنالك للتبشير. ومما قيل فيه نستنتج أنه كان من أحب الرفقاء إلى بولس وممن وثق بهم كثيراً إذ دعاه أخاً ورفيقاً وعاملاً معه واعتقد أنه حكيم ومجتهد وأمين بدليل قوله لأهل كورنثوس «أَمَّا مِنْ جِهَةِ تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ» وهو أحد الأخوين اللذين ذكرهما بولس بقوله «أَمَّا أَخَوَانَا فَهُمَا رَسُولاَ ٱلْكَنَائِسِ، وَمَجْدُ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 8: 23).
الغاية من كتابة هذه الرسالة تظهر من نصها وهي أن أنسيمس عبد فليمون أبقَ بعد ما اختلس من ماله (ع 18) وهرب إلى رومية وتعرف فيها بالرسول إذ كان له حينئذ أن يستقبل كل من أتى إليه (أعمال 28: 30) واهتدى به إلى المسيح. وكانت نتيجة إيمانه بالمسيح وتعليم الرسول أنه رغب أن يرجع إلى خدمة سيده ولما رجع إليها بعث معه هذه الرسالة والتمس فيها من فليمون أن يعفو عن عبده وينسى ما مضى منه ويرضى عنه وأن يرده إلى خدمته لا عبداً بل أخاً في المسيح وأنه متيقن أن فليمون «يفعل أكثر مما قال» (ع 21) أي طلب. وقال لفليمون إن ما يظهره لأنسيمس من اللطف يحسبه معروفاً له وأن يوفيه كل ما خسره بخيانة عبده وحين طلب عفوه عن عبده سأله أن يعد له منزلاً في بيته لأنه متوقع أن يأتي إليه بعد قليل. مما اختصت به هذه الرسالة أنها وحدها من رسائل بولس كُتبت لغاية خاصة لا لتثبيت عقائد دينية من رسائل إصلاح خلل في السيرة. وأن الرسول لم يكتبها باعتبار كونه رسولاً بل باعتبار كونه صديقاً لصديق مسيحي أو أخاً في المسيح لأخ فيه فكان مثالاً في الصداقة والتواضع والملاطفة والأنس و الرقة وحسن الذوق والحكمة والبراعة. وفي طلبه العفو عن أنسيمس لم يرد أن يستخف على عبده لكنه سأله أن ينزل عن حقوقه ولم يخاطبه بولس كأن له عليه حق الإطاعة بل كمن يسأل معروفه. فالتماس بولس إلى فليمون في أمر عبده أنسيمس يشبه بعض الشبه شفاعة المسيح إلى الآب من أجلنا لأن المسيح يلتمس إلى الآب بمحبة وتواضع أن لا يعاملنا بمقتضى ما نستحقه على آثامنا بل بمقتضى نعمته إكراماً لابنه الذي يشفع فينا فيسأله المغفرة لنا والرضى عنا فتكون نسبتنا إلى المسيح كنسبة أنسيمس إلى بولس. ومما اختصت به هذه الرسالة بيان النسبة بين الديانة المسيحية والاسترقاق فلا توجب على السادة تحرير عبيدهم في الحال بل تعد الطريق إلى إبطال الاسترقاق رويداً رويداً للمنافاة بين العبودية وتعليم المسيح إن كل المسيحيين إخوة وأن المؤمنين واحد في المسيح (متى 23: 8 و9 ويوحنا 17: 21).
إذا نظرنا إلى باطن هذه الرسالة وجدنا أنها خطاب موجه إلى اليهود المسيحيين الذين كانوا في خطر الارتداد فحثهم الكاتب على الثبات في الإيمان المسيحي وحذرهم من الرجوع إلى الديانة اليهودية. وهي في غاية الموافقة لهذا الغرض العظيم لأن الكاتب قد أثبت فيها فضل الديانة المسيحية على اليهودية وأنها الحقيقة التي أشارت إليها رموز الشريعة الموسوية وتمت فيها. والديانة المسيحية كما رسمها المؤلف عهد بين الله والناس وبموحب هذا العهد هو إلههم وهم شعبه (ص 8: 10) فلا يذكر خطاياهم بل هم مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (ص 10: 10) والعهد المرموز إليه والذي رجاءه شعب الله صار حقيقة بالمسيح وهو ثابت وباق إلى الأبد لأن المسيح حي في كل حين (ص 9: 12).
غاية الرسول من كتابة هذه الرسالة حث المسيحيين على الثبوت في إيمانهم بالمسيح والطاعة له في أثناء الضيقات الشديدة والتجارب المختلفة التي كانوا عرضة لها. وعلة تلك الشدائد أن أقرباءهم اليهود الساكنين في اليهودية كانوا يومئذ في قلق عظيم من ظلم الولاة الرومانيين فإن أولئك اليهود كانوا على وشك أن يعصوا الدولة الرومانية لما لقوا من الظلم ولبغضهم القديم للأمم. وابتدأ ذلك العصيان السنة 67 ب. م وكان والي اليهودية وقتئذ جاسيوس فلوروس وانتهى بخراب أورشليم السنة 70 ب. م فكان لا بد للمؤمنين المسيحيين من أن يشاركوا أقرباءهم اليهود في طلب النجاة من نير الرومانيين لكنهم لم يمكنهم أن يشاركوهم في أملهم أن المسيح سيأتي ويغلب الرومانيين وينشئ مملكة زمنية على الأرض ولذلك أبغضهم اليهود أنفسهم وحسبوهم كفرة ووشوا بهم إلى الحكام كأنهم عصاة للدولة فكانوا مضتطهدين ومبغضين من الرومانيين أيضاً لأن الرومانيين لم يفرقوا بينهم وبين اليهود العصاة. ومن غايته من كتابة هذه الرسالة إصلاح ما وقع فيه المسيحيون من الخلل في الاعتقاد والعمل. فوبخ منهم من ضل عن الحق المعلن في الإنجيل وهددهم لأنهم سمعوا كلام الله ولم يطيعوه واتكلوا للخلاص على إيمان فارغ لم يأتي بأثمار تليق بالتوبة وظلموا الفقراء واختلسوا أشياءهم وداسوا حقوقهم وأحبوا المقتنيات الدنيوية واللذات الجسدية أكثر مما يليق بهم. وكانوا يخاصم بعضهم بعضاً ويتذمرون على الله.
مما اختصت به هذه الرسالة بيان أن الديانة المسيحية إتمام نبوءات العهد القديم وفيها كثير من التشابيه المأخوذة من ذلك العهد وإشارات إلى فرائضه وتاريخه ومن ذلك ما في (ص 1: 10 - 12 و3: 5 و6 و20). وليس من أسفار العهد الجديد مثلها في كثرة المقتبسات من العهد القديم أو العبارات المأخوذة منه فإن آياتها 105 ومنها 23 آية مقتبسة من ذلك العهد وليس في رسالة أفسس سوى سبع ولا في رسالة غلاطية سوى ثلاث عشرة. وهذا ما يتوقع من بطرس بالنظر إلى كونه رسول الختان. ومما اختصت به كثرة الإشارات إلى أقوال المسيح وذلك دليل على كونه شاهداً بما سمع من فم المسيح نفسه وأنه اعتبر المسيح كل الاعتبار وأحبه كل المحبة واتخذه سيداً ورباً. وكثيراً ما ذُكر المسيح في هذه الرسالة باعتبار كونه الوسيط وأن قيامته من الأموات تؤيد ذلك ولهذا قال «بها (أي قيامته) وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ» (ص 1: 3) وأن إيمانهم بالله مبني على تلك القيامة (ص 1: 2). وذكر المسيح مثالاً لنا في احتمال الأرزاء وآثر أن يذكره باعتبار كونه في حال الارتفاع قائماً من الأموات ممجداً على يمين الله رئيس الكنيسة معبود الملائكة على أن يذكره باعتبار كونه في حال الاتضاع. واختار أيضاً أن يذكره باعتبار ما سيكون في مجيئه الثاني على أن يذكره باعتبار ما كان عليه مدة مجيئه الأول. ولهذا دُعي «رسول الرجاء» كما دُعي بولس «رسول الإيمان» ويعقوب «رسول الأعمال» ويوحنا «رسول المحبة» لأن الرجاء مقدار تعليمه في هذه الرسالة وأفكاره كانت تتوجه وهو يكتبها إلى المستقبل فكان يتوقع ظهور المسيح ثانية والمجد الذي يُعلن له ولشعبه.
الغاية من كتابة هذه الرسالة التحذير من المعلمين الكاذبين والأخطار التي كانوا عرضة لها من أولئك المعلمين (ص 2: 1 وص 3: 7). والإنباء بالهلاك الذي لا بد من أن يكون نصيب أولئك المضلين وحث المؤمنين على الثبات في الإيمان والبنيان في المعرفة والقداسة (ص 1: 11 وص 3: 17 و18). ولعله بعد أن كتب الرسالة الأولى لتعزيتهم في الضيقات والاضطهادات بلغه نبأ وجود المعلمين الكاذبين في تلك الكنائس فرأى من الضرورة أن ينبه الكنائس على الخطر منهم وأن يستعمل السلطان الذي أعطاه المسيح الرسل على مقاومة المضلين.
الغاية من كتابة هذه الرسالة بعضها ما في قوله «ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (ص 1: 3 و4). وقوله «كَتَبْتُ هٰذَا إِلَيْكُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (ص 5: 13). وبعضها على ما يظهر للقراء الحث على المحبة الأخوية وعلى الثبات في شركة الإيمان والمحبة لله الآب والابن والتحذير من الشهوات الجسدية ومن التعاليم الفاسدة. والبدع التي نشأت في الكنيسة يومئذ هي على ما في تاريخ الكنيسة بدعة الدوسيتيين (Docetans) وبدعة الغنوسيين فالدوسيتيون تمسكوا بتعليم سيرنتس (Cerinthus) وهو أن المسيح هو ابن يوسف وابن مريم كأبناء سائر الناس وأن الكلمة اتحد به عند المعمودية حين حل عليه الروح القدس كالحمامة وأن الكلمة انفصل عنه عند صلبه فاعتقدوا أن المسيح ليس إنساناً حقيقياً بل ظهر أنه كذلك حين تكلم مع الناس وأكل وشرب معهم وحين تألم ومات. وأنكروا قول الإنجيل في أن حبل مريم بالمسيح من الروح القدس وكل ما يتعلق بولادته وما ذُكر من أمره قبل دخوله في الخدمة. وقالوا أنه ظهر أولاً على شاطئ الأردن بهيئة إنسان ولكن ذلك صورة لا جوهر فخُدع أصحابه وأعداؤه حين ظنوا أنهم رأواه وسمعوا صوته ولمسوه. فغضب اليهود عليه عبثاً فإنهم لم يشفوا غضبهم إلا بخيال غير مادي وأن كل حوادث صلبه وموته وقيامته وصعوده ليست سوى خيالات. ففند يوحنا هذه البدع في هذه الرسالة بتصريحه أن المسيح أتى في الجسد حقيقة وعاش ومات حقيقة لا تخيلاً. وأبان في هذه الرسالة علاوة على التعليم الصحيح المتعلق بالمسيح أهمية المحبة وأن وجودها في المؤمنين دليل على أنهم متحدون بالمسيح وأن إيمانهم حق خالص. واجتهد في أن يبين العلامات التي يمتاز بها المؤمنون الحقيقيون عن سائر الناس.
كان الرسول في موضع سكنه بعض أولاد امرأة مسيحية فكتب إليها وإلى بعض الأولاد الذين معها هذه الرسالة. وذكر فيها مؤاساته لها وسروره بإيمان أهل بيتها. وأنذرها من سوء تعليم المعلمين الكاذبين. وفيها إيضاحات ذات شأن في المحبة وفي «ضد المسيح» وفي المؤمنين الحقيقيين والكاذبين. وتعاليم مهمة في معاملة الذين يُعلمون ما يعملون أنه ضلال. وهي ثلاثة أقسام التحية (ع 1 - 3) ونصح وإنذار (ع 4 - 11). وخاتمة (ع 12 و13). كُتبت الرسالة الثانية إلى إمرأة مسيحية لم نتحقق اسمها ولعل علة كتمه الاسم إن ذكره يعرضها لاضطهاد الحكومة الرومانية. وكانت أم أولاد مؤمنين مشهورة بإضافة الغرباء. وكُتبت الثالثة إلى غايس مدحه الرسول فيها على غيرته للكنيسة والمبشرين فيها.
مضمون هذه الرسالة فالتحية في أولها أظهر بها محبته لغايس ورغبته في عافيته الجسدية وسعادته (ع 1 و2). ومدح صفاته وأفعاله بناء على ما سمعه من بعض الإخوة الذين زاروه ولا سيما غيرته للحق وتلطفه بأعضاء الكنيسة والغرباء الجائلين للمناداة بالإنجيل (ع 3 - 8). وبيان أنه كتب إلى الكنيسة في شأن أولئك الغرباء لكن ديوتريفس لم يعتبر سلطان الرسول ولم يقبل الذين أوصى بهم. وقال أن ديوتريفس يستحق التوبيخ على هذا السلوك وإنه يتخذ عند مجيئه الوسائل التي تثبت سلطانه وبيّن له وللكنيسة ما يجب عليهم لمثل أولئك الضيوف (ع 9 و10). ونهى غايس عن أن يتمثل بديوتريفس وأمره بأن يستمر على إظهار المحبة واللطف تمثلاً بالله (ع 11). ومدح ديمتريوس شريكه في عمل المحبة وصرّح بأنه بلغه من حسن سيرة ديمتريوس مثل ما بلغه من حسن سيرة غايس (ع 12). وختم الكلام بقوله إن له أشياء كثيرة ليكتبها لكنه عدل عنها أملاً أن يجتمع به بعد قليل ويتكلم ملياً في كل ما في قلبه وبالسلام (ع 13 و14).وكُتبت الثالثة إلى غايس مدحه الرسول فيها على غيرته للكنيسة والمبشرين فيها.
ذكر يهوذا بعد التحية والدعاء (ع 1 و2) قصده من الرسالة والأسباب الحاملة على كتابتها (ع 3 و4). وهي قسمان: القسم الأول: أمثلة عدل الله في عقاب الأشرار الذين يشبههم المعلمون الكاذبون الفاسدون. وذكر منهم ثلاثة المتمردين من الإسرائيليين (ع 5) أيضاً بأنهم مدمدمون مشتكون سالكون بحسب شهواتهم وما أشبه ذلك مما يشق الكنيسة ويحمل على ترك الإيمان والطهارة (ع 16 - 19). والقسم الثاني: حث المؤمنين على أن يتقووا في الإيمان والصلاة والتقوى والرجاء (ع 20 و21) ونصحه لهم في معاملة الذين أضلهم المعلمون المفسدون وإن المعاملة تختلف باختلاف خطاياهم (ع 22 و23) وختمه الرسالة بكلمات التعزية والتسبيح (24 و25). ومن الواضح قوة المشابهة بين هذه الرسالة ورسالة بطرس الثانية ولا سيما بين (يهوذا 3 - 18 و2بطرس 2: 1 - 18) فمن البيّن أن أحدهما قد رأى رسالة الآخر واقتبس منها. واختلف المفسرون في السابق منهما ولا سبيل لنا إلى القطع لكن نرى سبباً كافياً للمشابهة إذا رأينا كما رأى كثيرون من أن بطرس كتب ما كتبه على سبيل النبوة (2بطرس 3: 3) وإن ما كتبه يهوذا كان بياناً لنجاز تلك النبوة فاستعمل يهوذا الكلمات التي استعملها بطرس عيتها ليبيّن أنها نجزت نجازاً تاماً كما يتضح من (يهوذا 17 و18).
إن الغاية من كتابة هذا السفر ما ذُكر في أوله وهو «إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله ليري عبيده ما لا بد أن يكون عن قريب». وهو بيان حال الرب كما هي الآن في السماء لتعليم شعبه وتعزيتهم. وعلى هذا يكون معظم هذا السفر نبوءة بأحوال الكنيسة في المستقبل في مجاهدتها ومحاربتها قوات الشر وانتصاراتها ودينونة أعدائها أخيراً منذ أيام المسيح إلى نهاية العالم لأن هذه هي الأمور التي تختص بعبيده (ع 1). وعبر عن ذلك برؤى تُعلن الأمور المستقبلة بطرق مختلفة وفي أثناء تلك الرؤى أقوال تعليمه للتعزية والتنشيط. وذكر فوق بيان الأمور المستقبلة بعض الأمور الماضية والحاضرة وقد تم بعض النبوءة وبعضها أخذ في أن يتم وبعضها سيتم في ما لم يعين من المستقبل. وأما قوله «لا بد أن يكون عن قريب» فيجب أن نفهمه بحسب نظر الله الذي «ألف سنة في عينيه كيوم واحد» وبمقتضى أقوال هذا السفر عينه فإنه بمقتضاها أن بعض نبوآته يقتضي تمامه ما يزيد على ألف سنة. ولعل المراد بقوله «يكون عن قريب» إنه يأخذ بعد قليل في سبيل المجاز. وأعظم حادثة أنبأ بها هذا السفر هي مجيء المسيح ثانية فكما أن أعظم مواضيع نبوءات العهد القديم مجيء المسيح الأول كذلك أعظم مواضيع هذه النبوءة مجيء المسيح الثاني. وانتصار ملكوته بالحوادث السابقة له والمقترنة به. وهذا الموضوع ذُكر في أول السفر وكُرر كثيراً فيه وخُتم السفر به.