العودة الى الصفحة السابقة

«لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية 1: 16)

بهذه الكلمات أوضح الرسول بولس ان دين الإنجيل هو دين المجاهرة والجهاد. وهو بهذا ينفذ قول المسيح: «الَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ» (متّى 10: 27). ولكن للأسف الشديد فان المؤمنين الذين اتخذوا هذا الشعار هم فئة قليلة، بينما العدد العديد من المدعوين مسيحيين يجارون المدعين ان مسيحية الإنجيل لا توافق عالم اليوم ولا تلائم أبناءه. ويقولون ان المسيحية بصليبها تليق بالمساكين المغلوبين على أمرهم، لكأنهم نسوا ان الصليب هو لب المسيحية وفخرها.

هذا ما آمن به بولس وجاهر به، اذ قال: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 14). وحين كتب الى الكنيسة في كورنثوس مذكرا بحق الإنجيل قال: «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا» (1كورنثو 2: 2).

والحق ان قصة المصلوب الخالصة من كل زخرفة تحمل في ذاتها قوة فريدة عجيبة لجذب الناس واعدادهم للخلاص. قيل ان الملك كلوفيس لما جاء اليه المبشرون كلموه قبل كل شيء بقصة الصليب. وحين اعتمد على اسم يسوع مد يده الى مقبض سيفه واستله ثم قال: لو كنت أنا وشعبي هناك لكنا هاجمنا الجلجثة وأنقذنا المسيح من يد أعدائه.

والحق ان المجاهرة بالإنجيل ببساطة، لها من القوة والتأثير ما لم يحققه شيء آخر. وقد عرف بالاختبار انه حين يتعامل خادمالإنجيل مع الناس ببساطة يستأثرهم لحب الإنجيل ولفخر الصليب أكثر بكثير مما تستطيع الحجج المنطقية والنظريات الفلسفية. وقد عرف بالاختبار أيضا ان الوصول الى أعماق الناس، لا يكون عن طريق العقل بل عن طريق القلب.

قبل ان يبادر بولس أهل كورنثوس كان في آثينا. وهناك حاول للمرة الأولى في حياته ان يقدم المسيح في عبارات فلسفية لجماعة من المفكرين في آريوس باغوس. ولكن المحاولة فشلت وكانت أول فشل لرسول الأمم في حياته. وفي ظني انه قال بعد ذاك الفشل: لن أكرر محاولة آثينا مرة أخرى. سأروي فصاعداً قصة يسوع ببساطتها الكاملة ولن أستحي بانجيل الصليب، ولن أعرف شيئا آخر إلا يسوع واياه مصلوباً.

في الحقيقة انه لمن دواعي الأسف ان تبدو المسيحية من خلال بعض فئاتها، وكأنها تستحي بانجيل المسيح الذي هو قوة الله للخلاص. وانه لمن البديهي ان يسبب الاستحياء بالإنجيل الوقوع في الفتور بحيث تصبح غير قادرة ان تفعل في المجتمع.

في العظة على الجبل قال يسوع لخاصته: «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ» (متّى 5: 14 و15). فالكنيسة اذن مسؤولة عن انارة المجتمع وإرشاده الى الحق. فان هي استحت بالإنجيل تضع النور الذي تلقته من المسيح تحت المكيال. ويل للعالم بدون نور المسيح، لأنه بدون نور المسيح يتعثر في الظلمة ويسقط. وقال المسيح لخاصته: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ (متّى 5: 13)

فالكنيسة اذن مسؤولة عن إصلاح العالم بما عندها من تعليم صالح. وويل لها ان فسد ملحها وفقد فاعليته لأن المسيح قال: «إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ... لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متّى 5: 13). وقال الرسول بولس ان الكنيسة هي عامود الحق وقاعدته. فاذن هي مسؤولة عن بنيان الناس على أسس الحق. وويل لها ان هي انحرفت عن الحق، لانها بذلك تنحرف عن المسيح لان المسيح هو الحق.

يا إخوة انظروا الى المهام التي تواجه الجنس البشري من توطيد أسباب السلام، وتوفير حياة افضل للناس، والقضاء على الخصومات وانصاف المستضعفين. فهل تستطيع القول ان الكنيسة حققت مشيئة ربها وفاديها؟ حين قال: «أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10) الا يحق للناس ان يتساءلوا ماذا فعل المسيحيون بالامر اليومي الذي تلقوه من سيدهم؟ لما قال: « كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (يوحنا 20: 21 مرقس 16: 15).

في ظني ان من يراقب نشاطات المسيحيين في هذه الأيام لا بد ان تبدو له المسيحية وكأنها تعمل في اتجاه غير الذي عينه المسيح. صحيح ان بعضا من المسيحيين ينشطون في نشر الإنجيل ولكن الأكثرية الساحقة يسببون العثرات في العالم، هذا مع ان المسيح قال: ويل لمن تأتي على يده العثرات، «فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ» (مرقس 9: 42). لست أستحي بانجيل المسيح قال بولس، وليس هذا فقط بل أراد ان ينطلق حاملاً إنجيل المسيح الى عاصمة رومية نفسها. وأي شجاع هذا الذي اعتزم الذهاب يومئذ الى رومية!! ليقول لأهلها: لقد أتيت لكم بشيء أولى باخلاصكم وولائكم من قيصر. أجدر بالاهتمام من جيوشكم الجرارة. أولى من فتوحاتكم الباهرة. أولى من ثرواتكم الضخمة. أولى من كل علم ومن كل عظمة. نعم هذا كان مطلب بولس ولم يستح به في بلد تعتبر القوة فيه أعظم ما في العالم.

ليس المطلوب منك ان تذهب الى رومية أو باريس أو واشنطن أو موسكو أو بكين. بل ابق حيث أنت فقط لا تستح بإنجيل المسيح فقط عش كما يحق لإنجيل المسيح. وفي بيتك اقرأ الإنجيل مع امرأتك وأولادك يوميا لتهيء لهم وسائل النعمة. وفي المجتمع تصرف حسب حق الإنجيل لكي يرى الناس أعمالك الحسنة ويمجدوا أباك الذي في السموات.

بولس كان مزهوا بإنجيل المسيح، فخوراً بصليب المسيح، مستريحاً في المسيح لأنه صلب نفسه مع المسيح. لذلك لا نعجب ان يتمتع بهذه القوة التي أتاحت له افتتاح غير رومية للمسيح. قد يتعذر على أي منا أن يجاري بولس ذي المواهب الفذة ولكن على الأقل لنأخذ عنه هذه النغمة المجاهدة المتحدية. وليكن لنا هذا الروح المسيحي الذي لا يستحي بإنجيل المصلوب، بل يتحدى به روح هذا العصر الفاسد الشرير. فبذلك نشهد للحق في وسط هذا الجيل المعوج والملتوي نضيء بينهم كأنوار متمسكين بكلمة الحياة.

ايها الإخوة، أريد أن أشير الى العناصر التي في إنجيل المسيح والتي تستدعي افتخارنا. وأرى قبل كل شيء ان ليس ثمة ما يجعل المسيحي يستحي بالإنجيل العكس هو الصحيح. ففي الإنجيل المبارك كل البشر في نظر الله سواسية «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3: 22 و23) اذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. تأمل في المبادئ الالهية التي جاءت في الانجيل، تر انها تتعمق الى وراء الفوارق بين الناس. انك لتجدهم متساوين في أعمق حاجاتهم في أعز أميالهم في أشد تجاربهم في أبشع سقطاتهم. ولا ريب ان وضع الناس في هذا المستوى الواحد هو الذي أحنق الكثيرين وأثارهم ضد المسيح قديماً وحديثاً. وكيف لا يثيرهم وقد نظر المسيح الى السامرية المستهترة والتي هي في نظر الناس من سقط المتاع. نظر اليها نظرته الى نيقوديموس رئيس المجمع ومعلم الشريعة. وحدثها عن الله وطريقة السجود له كما حدث ذاك عن ملكوت الله وطريقة دخوله. بمعنى انه حسب الإثنين في المرتبة الواحدة من حيث خلاص الله. وحين أبصر امرأة أرملة فقيرة تلقي بفلسين في قرابين الله الى جانب العطايا السخية التي قدمها الموسرون، قال ان هذه الارملة ألقت أكثر من الجميع. لانها من أعوازها ألقت كل معيشتها.

وفي رأي ان كل هذه المساوات تصدق في كل امتيازات الحياة فالموسيقى التي تصدح في قصر ملك عظيم ليست بأفضل منها حين تصدح في كوخ انسان فقير لم يعتد به أحد. واللوحة الفنية الرائعة المعلقة في قصر أغنى الأغنياء ليست بأجمل منها حين كانت معلقة في مرسم الفنان المنسي حتى من تقدير الناس. وهذه المحبة البشرية أليست هي واحدة في الأسود والأبيض في الرجل والمرأة في العبد والحر. وفي ما لله، أفليس أفقر الناس وأوضعهم شأناً يقدر ان يدخل مخدع الصلاة، ويتمتع بلقاء الآب السماوي الذي يرى في الخفاء ويجازي علانية. وأغنى الناس وأوسعهم جاها وأعظمهم قدراً وأعلاهم مركزاً يقدر أن يدخل الى هذا المخدع عينه، وبالطريقة عينها التي يدخل فيه الفقير.

ايها الأحباء

ان كلمة الرسول لست أستحي بانجيل المسيح لانه قوة الله لكل من يؤمن تعني ان الانجيل العزيز يطالب بالولاء والطاعة لله أكثر من الناس. ولعل هذا أيضا يثير أبناء هذا الدهر ضد المسيح وضد جماعة المسيح. ارجع الى التاريخ تر انه من وقت ان حمل المسيح صليبه وأطلق دعوته القائلة: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى 16: 24). منذ ذلك صارت الطاعة للإنجيل مدعاة لسخط الكثيرين لأنهم كاليونانيين رأوا في الصليب جهالة، وكاليهود رأوا في الصليب عثرة. ومع ذلك ففي كل عصور التاريخ وجد رجال وسيدات قبلوا الصليب وحملوه بفرح وعلة فرحهم انهم وجدوا في الصليب نير المسيح ولما حملوه تعلموا من المصلوب الوداعة والتواضع فوجدوا راحة لنفوسهم. هذه هي دعوتنا الولاء للمصلوب ويجب ان لا نستحي بهذا الولاء. في تقديري انه ليس أحد يستحي بانجيل المسيح الا الذين بسبب محبتهم للعالم الحاضر، فترت محبتهم لله. وكأنهم نسوا التحذير القائل: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَم» (1يوحنا 2: 15 و16).

أفخور أنت بإنجيل المسيح أم تستحي بالمسيحية الصحيحة وتحسبها نوعاً من الدروشة التي لا تليق بابن القرن العشرين؟ ان ما يؤسف له شديدا هو ان البعض في زمننا لم يكتفوا بالاستحياء بإنجيل المسيح بل هم يقفون في وجه الحق المعلن في انجيل المسيح. انما مسيحيو الكنيسة الأولى لم يستحوا بالإنجيل متكبدين لأجله أقسى ضروب الاضطهاد. فقد كان مجرد حمل اسم المسيح يكفي لإلقاء حامله بين براثن الأسود أو في أشداق النيران. ولكن هذه الأخطار ما كانت لترهبهم أو تسد أفواههم عن المناداة بالإنجيل عالياً.

ويروى ان شابا منهم سيق الى ساحة الألعاب ليقدم طعاماً للأسود الجائعة أمام النظارة من الرومان الذين اتخذوا من التنكيل بالمسيحيين وسائل للتسلية. وحين وصل به الجندي الروماني الى الباب المؤدي الى الموت، سأله متهكماً: والآن أين هو يسوعك النجار؟ فأجاب ان يسوعي النجار منشغل بإعداد تابوت لامبراطورك. هذا الفتى كان فيه روح البسالة ولا أعتقد ان روح البسالة ماتت في المسيحيين. لأن المسيح حي وهو حي في قلوب الذين هم له والذين ما زالوا يقولون للرب: «يَارَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)