العودة الى الصفحة السابقة

«عِنْدِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ ٱلأُولَى» (رؤيا 2: 4)

في رسالته الى أهل أفسس أعلن يسوع أموراً بالغة الأهمية. أمورا جديرة بتأملنا كمؤمنين وكشهود وكخدام للمسيح. وقد استهل السيد الرب رسالته بالتنويه بفضائل تلك الكنيسة المحبوبة.

أولاً: امتداح جهودها: «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ» (رؤيا 2: 2). انها لكلمات رائعة تنطق بمجهودات تلك الكنيسة عمل وتعب وصبر. وهل في اللغة كلمات أدل من هذه على روح الجهاد لاجل اسم يسوع. رأى غاربيالدي محرر ايطاليا عددا من الشبان يتسكعون في الشوارع. فدعاهم للانضمام الى جيشه فسألوه ماذا تقدم لنا؟ فأجاب: أقدم لكم صعوبات وجوع وعطش وملابس بالية وأياما في المشي المضني وليالي بدون نوم وأنواعاً لا تحصى من الحرمان. ولكن مع هذه كلها أقدم فرصة المساهمة في أعظم مشروع واجهكم هو الحرية.

هكذا يقول قائدنا العظيم يسوع: «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا 16: 33). غلبته لكم بالقوة المنبعثة من آلامي التي تجرعتها لذلك ان أراد أحدكم ان يغلب العالم فليعرفني في شركة آلامي. ان فعلتم هذا تثبتون في كلامي، وتعرفون الحق والحق يحرركم.

تذكر يا أخي انه وهب لك من أجل المسيح لا أن تؤمن به فقط، بل أن تتألم لأجله. وفي يقيني ان كان أحد لم يعرف هذا الفادي في رجل الأوجاع ومختبر الحزن، فلن تتسنى له معرفته في مريح التعابى الذي قال: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (متّى 11: 29). ولعله بوحي من هذه الدعوة قال الرسول بولس: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِه لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ» (فيلبي 3: 10 و11) .

ثانياً: أشاد بمقاومتها الأشرار وكشف الرسل الكذبة الذين يدسون بدع هلاك ويفترون على الحق خادعين الغير التائبين. قال له المجد: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذِبِين» (رؤيا 2: 2).

والواقع انه في زمن كتابة هذه الرسالة قد جرى في أفسس ما حذر الرسول منه. حين قال في كلمته الوداعية للرعاة: «اِحْتَرِزُوا اِذًا لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ. لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّة» (أعمال 20: 28 و29).

ونحن أيها الأحباء خدام يسوع لنحترز لنفوسنا ولجميع هذه النفوس التي ائتمنا عليها في الكنائس والمدارس والمراكز التبشيرية ولنجاهد من أجل هؤلاء الذين مات المسيح لأجلهم لكيلا نفشل وهم يهلكون في خطاياهم. قيل ان الرسول يوحنا أودع شابا حديث الإيمان في رعاية أحد قسوس أفسس ولكن هذا أهمل رعاية الشاب فارتد عن الايمان. ولما قابل الرسول هذا الراعي قال له: يا للأسف لأي حارس أودعت انا هذا النفس؟!

ثالثاً: غبط صبرها في الضيق والأتعاب من أجل اسمه المبارك. قال: «وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ» (رؤيا 2: 3). قال القديس اغسطينوس: ان أعظم المناظر التي تحمل الملائكة على التأمل في جمالات الأرض ليست الإهرامات او المسلاّت أو القصور المنيعة، بل منظر الإنسان الذي يعرف كيف يصنع الحق ويحتمل الأذى لأجل اسم يسوع. وقيل عن أحد خدام الرب انه كان أصم حين كان في وسعه أن يسمع، وأخرس حين كان في مقدوره ان يتكلم وأعمى حين كان في طاقته أن يرى. وانه اطفأ كل ما أمكنه من نيران الشر إلا انه لم يشعل ناراً قط. فتم فيه قول القول الالهي: «مَنْ هُوَ أَعْمَى إِلاَّ عَبْدِي، وَأَصَمُّ كَرَسُولِي الَّذِي أُرْسِلُهُ؟» (إشعياء 42: 19). أي انه أخرس عن التكلم بالغش، وأصم عن سماع الإساءات، وأعمى عن رؤية العيوب فقد كانت عنده المحبة التي لا تقبح. يا أخي، تجاوز عن سيئات الغير لان من يستر المعصية يصنع المحبة. احتمل لأن المحبة تحتمل كل شيء. اصبر لان المحبة تصبر على كل شيء.

رابعاً: نوه ببغضها أعمال النيقولاويين التي كانت مكرهة في عيني الرب. قال: «عِنْدَكَ هذَا: أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضًا» (رؤيا 2: 6).

يا مختاري الرب ابغضوا الشر

يا أحباء الله ابغضوا الخطية

يا مفديي يسوع امقتوا الاثم

يا أبناء النور ابغضوا الظلمة.

قال الواعظ المشهور جون وسلي: ان توقعت السقوط أم لم تتوقع، فهذا ما لا أجادلك فيه. ولكن كمحب يجب ان لا تناقض ناموس المحبة الكاملة وفي هذا تكون كارهاً للشر ملتصقاً بالخير.

كان النيقولاويون جماعة من الفجار الإباحيين المفترين على القداسة ومحولين نعمة الله الى الدعارة، تشبهاً بعابدي الأوثان المحرمة. ولعل أقبح ما وصموا به انهم وضعوا للفساد أنظمة وتعاليم. وهل في الوجود شر من هذا ان يلبس أحد الشر لباس الخير؟ وللأسف ان النيقولاويين لم يخل منهم جيل وهم كثيرون وناشطون في أيامنا. وهم مندسون في الأوساط المسيحية. لذلك لنحترز لحياتنا ولنبن أنفسنا على إيماننا الأقدس مصلين في الروح القدس. ولنحفظ أنفسنا في محبة الله ولنجاهد ضد الخطية ناظرين الى رئيس الايمان ومكلمه يسوع.

كان في كنيسة أفسس فصائل وقد نوه بها الرب وكتبها يوحنا المحتجز في جزيرة بطمس من أجل كلمة الله ومن أجل شهادة يسوع. كتبها لأجل إنذارنا وتعليمنا. إلا ان كنيسة أفسس المحبوبة، مقابل تعبها وصبرها ومحاربتها أهل الضلال. كانت تتردى في خطية مميتة وهي ترك المحبة الأولى. قال الرب: ولكن عندي عليك أنك تركت محبتك الاولى.

آه! كم هي مريرة هذه الكلمة «ولكن». وما أشد وقعها على النفس التي عرفت يسوع! كنيسة بلا محبة جسد بلا روح. أجل، كان لكنيسة أفسس أعمال، ولكن ليست أعمال المحبة. وكان لها تعب، ولكن ليس تعب الإيمان العامل بالمحبة. وكان لها صبر عظيم ولكن ليس صبر الرجاء الذي له عمل تام. وكأنى بالسيد الرب يقول لهذه الكنيسة. لك عندي سبعة أشياء:

أعمال وتعب وصبر

ومقاومة الاشرار

وكشف الرسل الزائفين

واحتمال الضيقات

وبغض أعمال النيقولاويين

ولكن عندي عليك شيئا واحداً. وهذا الشيء الواحد يلاشي كل ميزاتك، انك تركت محبتك الأولى.

قال الرسول يعقوب: «مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ» (يعقوب 2: 10). فكم بالحري الذي يعثر في أعظم الناموس، أي المحبة التي هي تكميل الناموس، يكون أكثر اجراماً؟

في رسالته الأولى الى تسالونيكي امتدح الرسول بولس المؤمنين فيها. اذ قال «مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ »(1تسالونيكي 1: 3). بمعنى ان بولس وجد في كنيسة تسالونيكي إيماناً، بينما يسوع وجد في كنيسة أفسس أعمالاً فقط. فأين هو الإيمان العامل بالمحبة؟ انه قد ضاع. ووجد بولس في كنيسة تسالونيكي تعب المحبة، بينما يسوع لم يجد في أفسس إلا تعباً. فأين المحبة التي هي رباط الكمال؟ انها قد ذهبت. ووجد بولس في تسالونيكي صبر الرجاء المنتظر الرب، بينما يسوع لم يجد في أفسس إلا صبراً فقط، فأين هو الرجاء الذي يزكي الصبر؟ انه قد فقد! تلكم هي كنيسة أفسس التي أسسها بولس، وأقام فيها ثلاث سنين واعظاً ومعلماً. وهي التي رعاها يوحنا الرسول، وكان تيموثاوس أحد الخدام فيها. ومع ذلك أصبحت لا شيء لأنها تركت محبتها الأولى.

وكم من كنيسة في جيلنا تركت محبتها الأولى لتحب العالم فصارت لا شيء. يا للمحبة الأولى! ما أروعها! ما أمجدها! انها محبة لقائنا الأول مع المخلص الرب، ونظرتنا الأولى الى وجهه المبارك. انها محبة الخطوبة التي ارتبطنا بها مع ابن الله وفقا للقول النبوي فيإرميا: «قَدْ ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ» (إرميا 2: 2). انها المحبة الغيرى، التي قالت عروس النشيد انها قوية كالموت قاسية كالهاوية. ولكن هذه المحبة هبت عليها رياح الإهمال ورفعتها في اتجاهات مختلفة. فأحببنا مع الله أشياء أخرى من هذا العالم الفاني حتى لم يبق في وسعنا حفظ الوصية الأولى والعظمى في الناموس. أجل لقد انتاب كنيسة أفسس مرض الفتور فقال الله: «اذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى» (رؤيا 2: 5).

أيها الأحباء

انها فرصة طيبة لكل مؤمن ان يذكر البرهة التي ذاق فيها الرب للمرة الأولى. يوم كان لهيب محبة، لهيب لظى نار الرب، حتى ان مياها كثيرة ما كانت بمستطيعة أن تظفئها. وهي فرصة سانحة لكل من فترت محبته لكي يمتحن نفسه ويعرف من أين سقط.

كنت في القمة، واليوم صرت في الحضيض فاذكر من أين سقطت. كنت على جبل قدس الله في شركة الصلاة مع العلي ساكن الابد. أما اليوم فصارت ساعة الصلاة ثقلاً عليك فانظر من أين سقطت. لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين قال الرب يسوع. فأنت يا من بردت محبتك، هلا أسرعن لإضرامها بالصلوات الحارة بالروح. قال يوحنا فم الذهب: اذا أردنا حفظ الماء ساخنا نضعه في إناء على النار باستمرار. هكذا اذا أردنا الاحتفاظ بمحبتنا لله حارة وملتهبة يجب أن نحفظها بالصلاة باستمرار. اذكر من أين سقطت، وتب واعمل أعمالك الأولى قال يسوع.

وقال رسول الأمم بولس: «فَاللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (أعمال 17: 30). واكرم بالتوبة من وسيلة تعيدنا الى محبتنا الأولى. فيرد لنا الله بهجة خلاصنا الأول، فنجدد قوة ونرسل أجنحة كالنسور. ونقول للخطية «لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي. انه حَتَّى يُقِيمَ دَعْوَايَ وَيُجْرِيَ حَقِّي. سَيُخْرِجُنِي إِلَى النُّورِ، سَأَنْظُرُ بِرَّهُ. وَتَرَى عَدُوَّتِي فَيُغَطِّيهَا الْخِزْي»ُ (ميخا 7: 8-10).

ولا نلبث بعد ذكل ان نعمل أعمالنا الأولى أعمال العهد الأول. عهد الوفاء للفادي - عهد الإيمان لرئيس الإيمان - عهد الأمانة للشاهد الأمين - عهد القداسة للقدوس الحق - عهد الغلبة للغالب المنتصر - الذي يعطينا الغلبة ويمنحنا ان نأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله.