العودة الى الصفحة السابقة

«إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا» (مزمور 90: 12 ب)

من ميزات رجال الأعمال الناجحين انهم يجرون حساباً على أعمالهم في نهاية كل سنة. وانها لحكمة، أن يجري الإنسان تقييما لأعماله السنوية على ضوء الأرقام ليعلم ما له وما عليه. فلنقتد برجال الأعمال بإلقاء نظرة شاملة على ماضينا علنا نفيد من العبر. وكم هو حسن أن نلقي هذه النظرة ونحن على عتبة العام الجديد. وانه لحكيم جداً من يفحص نفسه متسائلاً: كم مرة سعيت في طريق السلام؟ كم مسكيناً واسيت؟ كم بائساً خففت عنه بؤسه؟ كم ساقطاً أنهضته؟ كم فاشلاً شجعته؟ كم حزيناً عزيت؟ وكم كسير قلب جبرت؟

قد يضطرب البعض ان هو أجاب على هذه الأسئلة بإخلاص لأن الجواب سيظهر تقصيراته. وقد يظن بعض آخر ان ما فعلوه في الماضي قد أسدل عليه ستار النسيان. لكأنهم نسوا القول الرسولي: «فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا ، لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً. فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غلاطية 6: 7-9).

أيها الأحباء

منذ سويعات قليلة انتهى العام 1970 ولم يبق منه سوى بعض الذكريات، التي أكثرها مؤسف. فكم أحرقت قلوب في غضوبة! وكم زرفت دموع في خلاله! وكم أريقت دماء في اثنائه! وكم من قوي أضعفت أحداثه المزعجة! وكم من عزيز أذل بأرزائه القاسية!

ومع ذلك فقد قل المتعظون بعبره اذ لم تكن لهم اذان للسمع. لقد عبروه كما عبروا أعوامهم الماضية دون أن يفتدوا الوقت. وكان ممكنا أن يغربلهم الله لسبب عدم الثمار ولكنه أبقى عليهم، وكأنه أراد بإضافة سنة الى سني حياتهم أن يثمروا. أقول هذا وفي خاطري أفكار من مثل التينة العديمة الثمار، والتي صمم صاحبها على قطعها وإلقائها في النار. ولكن الكرام سأل أن يمهلها سنة أخرى فان لم تثمر يقطعها. هذا هو قصاص من يستهين بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته.

فبقساوة قلبه غير التائب يذخر لنفسه غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة غير عالم ان لطف الله وإمهاله انما هو لاقتياده الى التوبة. بحيث تصبح الاستهانة بالوسائط التي أعدها الله لخلاصه عصيانا يستوجب القصاص. وهناك مثل آخر يصف لنا مصير المستهين بألطاف الله. إنه مثل الكرم الذي غرسه صاحبه كرم سورق وبنى برجاً في وسطه، ونقر فيه أيضا معصرة وانتظر ان يصنع عنباً فصنع عنباً ردياً. فماذا يعمل صاحبه؟ قال: «أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَأَجْعَلُهُ خَرَاباً لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ، فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي ٱلْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَراً» (إشعياء 5: 5 و6).

في الواقع ان وسائط النعمة تحمل معها عقاباً خاصاً للذين لا ينتفعون بها. فعلى قدر النور الذي عندنا يزداد ظلام دينونتنا ان لم نستفد من النور. هكذا قال المسيح: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَب»ُ (يوحنا 12: 35).

قال يوحنا المعمدان: «وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ» (متّى 3: 10). فهل تدري أيها المسيحي الغير المثمر كم مرة، ارتفعت يد العدل الالهي بالفأس لضربك؟ وانه كان يجب ان تقطع منذ سنين عديدة تمشيا مع كلمة القضاء «لماذا يبطل الارض؟». ولو لم يرد يسوع الفأس عنك لقطعت فعلا وطرحت في النار.

ليكن لنا عبرة بالذين كانوا معنا في الماضي، والذين كانوا يحبون الحياة ويهوون كثرة الأيام. والذين كانت لهم آمال واسعة ورجاءات بعيدة ولكنهم ذهبوا. أما نحن فيجب أن نشكر الله لأنه أبقانا أحياء وقصده ان نعرف زمن افتقادنا، ونطلب ما هو لسلامنا فنتوب ونرجع اليه قبل الفوات. وانها لفرصة طيبة للتوبة لأن الله يقول: «هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كورنثوس 6: 2). لا تؤجل يا أخي فالتأجيل غلطة مؤسفة جدا. يقول مثل اسباني: طريق التأجيل تنتهي الى العدم. ويقول مثل انكليزي التأجيل لص الوقت، فلا تتركه يسرق قوتك، وبالتالي حياتك الأبدية. لا تؤجل حتى ولو كانت نواياك طيبة فطريق الهلاك كثيراً ما تكون مرصوفة بالنوايا الطيبة.

تذكروا أيها الأعزاء ان سنة من الزمن قد مرت بنا منذ أن اجتمعنا في بداية العام الماضي. وكنا مثل اليوم لا نعلم ما يخبئه لنا العام المقبل في طياته. ولكننا صلينا وتوسلنا وابتهلنا وسألنا أن يصير لنا سلام مع الله، وسلام مع القريب، وسلام مع البعيد.

ولعل البعض لم يتحقق سلامهم بعد. ومع أن صلاة الإيمان تُستجاب إلا أنهم لم يجدوا السلام. لأنهم لم يتصالحوا مع الله بربنا يسوع. وبدون المصالحة لا ترفع الخطية، وبدون ان ترفع الخطية لن يكون سلام. لا تفتخر بالغد، قال سليمان الحكيم، لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم. ويقينا ان أيام البقاء هنا مهما طالت فهي مسافات قصيرة، وقد شبه الإنسان بالزهر يخرج ثم ينحسم ويبرح كالظل. لنتب الى الهنا لأنه «يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (أعمال 17: 30). لنتب اليوم لأن الروح القدس يقول: «الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (عبرانيين 4: 7). «تُوبُوا وَارْجِعُوا عَنْ كُلِّ مَعَاصِيكُمْ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمُ الإِثْمُ مَهْلَكَة» (حزقيال 18: 30). «لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ» (إشعياء 55: 7). «حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 3: 11). هذا قليل من كثير من الدعوة الصارخة الى الخلاص بالنعمة، ومع ذلك يؤجل الناس هذا الأمر الى يوم أنسب! هذه كانت غلطة فرعون مصر حين قال لموسى «غدا وليس اليوم» لأنه حين أقبل الغد لم يجد مكانا للتوبة، لأن قلبه كان قد تقسى.

وهذه كانت غلطة فيلكس الوالي فمع أنه ارتعب من كلام الرسول بولس عن البر والتعفف والدينونة العتيدة الا انه قال للرسول: أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك. ولكن الفرصة كانت يتيمة لأنه لم يكن ثمة لقاء بين الوالي والرسول. وشر ما في التأجيل انه هو ان النفس تفقد في أية لحظة الاقتناع بالخطية. لأن الاقتناع بالخطية من عمل الروح القدس، وعناد الإنسان يحزن الروح القدس، وبالتالي يعطل عمله. هكذا قال الله: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ» (تكوين 6: 3).

خذوا عبرة من عيسو، الذي باع بكوريته بأكلة عدس فحسب مستبيحا، ولما أراد ان يتوب لم يجد مكانا للتوبة مع أنه طلبها بدموع. «فَكُنْ غَيُورًا وَتُبْ» (رؤيا 3: 19) هكذا قال لكنيسة أفسس ومعنى هذا ان المؤمنين مدعوون للتوبة. ليتوبوا عن كبريائهم التي تشبه الفريسية عند كثيرين. ليتوبوا عن اهمالهم، عن ضعف محبتهم، عن الخصام والحسد، عن ظن السوء والطمع. عن قلة الخدمة والشهادة للمسيح، عن عدم عمل الخير للجميع. «فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يعقوب 4: 17).

دور يمضي ودور يجيء والشمس تشرق والشمس تغرب، وفي الشروق والغروب اعلان بانقضاء مرحلة من مراحل حياتنا. وكلمة الله تقول لنا: انها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، «فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا . قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ ، لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ، لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ، لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. وَإِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَتَعَقَّلُوا وَاصْحُوا لِلصَّلَوَاتِ . وَلكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (رومية 13: 11 و12 و13 1بطرس 4: 7 و8).