العودة الى الصفحة السابقة

«اَلْمُكْثِرُ ٱلأَصْحَابِ يُخْرِبُ نَفْسَهُ، وَلٰكِنْ يُوجَدْ مُحِبٌّ أَلْزَقُ مِنَ ٱلأَخ» (أمثال 18: 24)

يعلمنا الاختبار ان الأصحاب مهما كثروا لا يمكن الاعتماد عليهم في وقت التجربة. لأنهم لسبب أو لآخر يقفون بعيداً، ورب صاحب ينقلب الى عدو وحينئذ تكون الطامة الكبرى. لأنه لا يوجد على النفس أقسى وأمض من ابتعاد من كانت تحبهم.

أيوب تخلى عنه الأصحاب والأقارب في أبان محنته القاسية، فتصاعد أنينه وأرسل تلك الصرخة المتوجعة: «أَقَارِبِي قَدْ خَذَلُونِي، وَالَّذِينَ عَرَفُونِي نَسُونِي!» (أيوب 19: 14) صحيح ان التجارب لا بد أن تأتي، ولسنا بمنجاة منها. ولكن حين تنقض علينا يجب ان نذكر ان هناك المحب الألزق من الاخ، الصديق الذي يحب كل حين، الصديق الذي لا يتغير قلبه بسبب إهانات من هم غرض قلبه. هذا الصديق هو يسوع وقد قال: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ... وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (يشوع 1: 5 ومتّى 28: 20)) في هذا الصديق الصدوق يحب ان تتركز ثقتنا. واليه وحده يجب أن نهرع حين تحيق بنا البلايا، وتنزل بنا النوازل.

هذا اليسوع جاء الى العالم لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. انه راعي نفوسنا وأسقفها، الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. قال الرسول: «إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ» (رومية 5: 6) وانه لعجيب حقا ان يموت البار من أجل الاثمة.

فهل نجد صديقاً صدوقاً كيسوع الذي ذهب به الوفاء الى وضع النفس؟! نزل من السماء الى الأرض لكي يرفعنا من الأرض الى السماء. اشترك معنا في اللحم والدم لكي يشركنا في طبيعته الإلهية. افتقر من أجلنا وهو غني لكي يغنينا بفقره. تذلل من أجلنا وهو العزيز لكي يقربنا الى الله قديسين وبلا لوم في المحبة. أُدب من أجلنا وهو رب المجد لكي نشترك في قداسته. حمل خطايانا في جسده على الخشبة، وهو القدوس الحق، لكي يجعلنا أبرارا. هذا يسوع الرب الفادي الصديق الألزق من الاخ الذي أريد التأمل وإياكم في شخصه فيكلمتين:

الكلمة الأولى شخصية يسوع: ولكن أنى لفهمي المحدود أن يلم بصفات رب المجد؟ ومن هو إنساني الضعيف لغة وفكرا حتى يتحدث عن خالقه؟! وهو عظيم في طفولته، اذ بُهت معلمو الدين من أجوبته حتى تساءلوا من أين له هذا؟! وهو عظيم في معموديته، اذ انشقت له السماء ونزل الروح القدس في هيئة حمامة. وسمع صوت الآب يقول: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ (متّى 3: 17). وشهد له عظيم الأنبياء يوحنا المعمدان بأنه يعمد بالروح القدس وبنار. وهو عظيم في تجاربه، اذ انتصر على الجوع، وعلى النزوات البشرية، التي تهوى التملك وتنزع الى تعظم المعيشة. فهزم ابليس المجرب بسيف الروح، معطياً الغلبة لكل من يؤمن به.

وهو عظيم في تعليمه. قال الكتاب المقدس: انسكبت النعمة على شفتيه، «فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبة» (مرقس 1: 22). وقال رئيس المجمع نيقوديموس حين جاء اليه ليلاً: «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا 3: 2) وهو عظيم في قدسيته لأنه لم يعرف ولم يعمل خطية. وهو الذي سبح له السرافيم في الهيكل قائلين «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إشعياء 6: 3).

وهو عظيم في موته وقيامته لانه بالموت والقيامة غلب الموت، اذ جعل القبر نقطة انطلاق الى الحياة الأبدية. فصارت الكلمة الرسولية. «أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيل» (2تيموثاوس 1: 10). ورن صوت الانتصار بفم بولس: «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1كورنثوس 15: 55).

وهو عظيم في صعوده اذ أنه صعد الى أعلى عليين وجلس عن يمين العظمة فوق كل رياسة وسلطان. «وله تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ. وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي 2: 10 و11).

قال أحد الأتقياء: المسيح معجزة الدهور الفريدة. انه أساس العقيدة الصالح وحاجة الدين المنشودة. انه أسمى ما تشتاق اليه نفس تريد ان تحيا في سلام. وأفضل ما يصبو اليه مجتمع يريد أن يحيا في البر. انه الخبز الحي النازل من السماء، الواهب حياة للعالم. ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى الأبد. انه الماء الحي الذي يروي النفس العطشى الى بر الله. من يشرب من هذا الماء لا يعطش الى الأبد بل تجري من بطنه أنهار ماء حي. انه حكمة الله التي ظهرت في ملء الزمان. انه الصراط والحقيقة والحياة، ليس أحد يأتي الى الآب الا به. انه الكل في الكل وبالكل في حياة المؤمنين في كل زمان ومكان.

الكلمة الثانية عمل يسوع: تجسد الفادي الرب عند ملء الزمان ليصير الله معنا، وليعمل فينا ان نريد وأن نعمل من أجل المسرة.قبل التجسد تراءى لبعض رجال الله القديسين وحين سأله أحدهم ما اسمك؟ قال لماذا تسأل عن أسمي وهو عجيب! وهذا الاسم المبارك صار تسبيحه في فم اشعياء النبي واذ قال: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6). والحق أي شيء أعحب من هذا ان الازلي ساكن الابد القدوس اسمه يصير انسانا؟! هذا هو سر التقوى، قال بولس، الله ظهر في الجسد. هذا التنازل العجيب، أدهش الشاعر الانجليزي ملتون فقال: ان ذلك الكائن المتوج بالمجد والجلال ذلك الساكن في نور لا يدنى منه، جليس مشورات الأزل المتربع على عرش النور.

أخلى مجده لكي يسكن معنا في ظلمة خيمتنا، هذا هو العجب العجاب!!! وأنت يا أخي العزيز الا تندهش مع ملتون؟ ألا تجد في تنازل القدوس الحق أبجدية إيمانك؟

إن آمنت به ان عرفته في اتضاعه ان عرفته في شركة آلامه ان صار فيك فكره من جهة التواضع ونكران الذات فطوباك لان طريق السماء يصبح ممهدا لك. هكذا قال له المجد إني: «فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِين» (إشعياء 57: 15). لنتأمل في تعاليمه. الصفاء والنقاء فيها. وهي تحكم للخلاص بالايمان. انها صالحة للتقويم والتأديب الذي في البر.

قال له المجد: «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِه. إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي وَتَعْرِفُونَ ٱلْحَقَّ وَٱلْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ» (يوحنا 15: 3 و8: 31 و32 و15: 7).

ولنتأمل في معجزاته. وقبل كل شيء هو نفسه معجزة المعجزات وآية الآيات. ومن غناه في اللطف، ان أعمال قدرته لم تكن من النوع المرهب. بل كانت مملؤة رأفة ورحمة وحنانا، مما جذب القلوب اليه، العمي فتح عيونهم، الصم فتح آذانهم، والبكم أنطقهم والعرج مشاهم، والبرص طهرهم والمجانين عقلهم، والمساكين بشرهم، والخطاة بررهم.

يسوع ربنا أيها الأحباء أقوى من ناموس الطبيعة. فقد انتهر الريح وهدأ العاصفة وأطعم الألوف من سمكتين وخمسة أرغفة شعير. انه أقوى من ناموس الموت لأنه أقام الأموات. «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!» (يوحنا 11: 43) - «يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي!» (مرقس 5: 41). أيها المائت في الذنوب والخطايا استيقظ وقم من بين الأموات فيضيء لك المسيح. ولنتأمل في صليبه، لننظر وجه المصلوب من أجلنا. ولنذكر ان الفادي المصلوب سدد دين العدل الإلهي لكي يصالحنا مع الله بدم صليبه. فتمت النبوة القائلة: «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10). وصارت الكلمة الرسولية: «إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ (2كورنثوس 5: 19). لم يكن موته الكفاري المهين مفروضا بدليل قوله: «لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يوحنا 10: 17 و18). فالموت بالنسبة له كان كأسا شربها باختياره، وفقا لمشيئة العظمة الإلهية في المحبة. «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

قال اشعياء النبي: «تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إشعياء 53: 5). وقال القديس اغسطينوس: ان من ينظر يسوع مصلوباً ويضع اتكاله عليه تبرأ نفسه العليلة من جروح الخطية التي ارتكبها.

وأخيرا لنتأمل في قيامته. قام في صباح يوم الاحد ناقضا أوجاع الموت. في ذلك اليوم تم الانتصار وانطلق الرجاء الحي وسرى الخبر عبر الزمان ان يسوع، وله مفاتيح الهاوية والموت. قال لخاصته في خطابه الوداعي: في ذلك اليوم تعلمون اني حي فستحيون.هللويا يسوع قام، وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات أقامنا معه لنطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. وأعطانا ان ننتظر مجيئه ثانية لكي يأخذنا اليه حتى حيث يكون هو نكون نحن أيضا. هذا هو يسوع! انه رب الخلاص، القادر ان يخلص الى التمام. فلنعطه المجد اللائق ولنكرمه بالحمد والتسبيح.

قال الكاتب الانجليزي تشارلس لام: لو دخل شكسبير مجلسنا لوقفنا له إجلالاً. ولكن لو دخل يسوع الناصري لوجب ان نركع عند موطئ قدميه تعبداً، لأنه ملك الملوك ورب الارباب. من غير يسوع يقدر أن يشفي القلوب المقرحة بالخطية؟ من غير يسوع يقدر أنيغسل القلوب الملوثة بقذارة الإثم؟ من غير يسوع الذي انكسر قلبه على الصليب حبا يقدر أن يجبر المنكسري القلوب؟

تأكدوا أيها الأحباء انه حين يتركنا الأصدقاء ويهجرنا الأخلاء ويتخلى عنا الأحباء. يبقى هو ذلك المحب الألزق من الأخ. وحين تحيق بنا التجارب وتعصف بنا الآلام يمد يده بالعون لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين.

قال اشعياء النبي: «لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا - ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا (إشعياء 53: 4 و7). هذا هو الرب الفادي والصديق الصدوق. فاقبل اليه وابتهج بخلاصه وافرح فيه كل حين. هكذا قال اشعياء: «فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ »(إشعياء 61: 10).

وقالت العذراء المطوبة مريم: «تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي. صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ» (لوقا 1: 46 و47 و49). وأنت يا أخي العزيز، تمثل بهؤلاء القديسين وافرح بالرب. سلم ذاتك له. انظر اليه، لأن كل الذين نظروا اليه استناروا، ووجوههم لم تخجل. انه يسمع الودعاء فيصرخون. انتظر لأن، «مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ» (إشعياء 40: 31).