العودة الى الصفحة السابقة

«لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً» (فيلبي 3: 7)

في الأعداد التي تليت علينا من الرسالة الى أهل فيلبي، قارن الرسول بولس بين عنصريته الغنية بالانساب والميزات الدينية، وبين المكاسب الروحية التي حصل عليها بالمسيح فقال: «إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ فَأَنَا بِٱلأَوْلَى. مِنْ جِهَةِ ٱلْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ ٱلْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْم لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ» (فيلبي 3: 4-9) هذه المقارنة التي اجراها الرسول الكريم أضعها أمامنا للتأمل في أربع كلمات:

الكلمة الأولى عهد الناموس: فمع أن الرسول كان يعتبر جداً الديانة الهيودية التي أشبعت نفوس آبائه أجيالاً طويلة. ومع أنه تربى عليها منذ حداثته ووالاها في غرة شبابه. ومع أنه آمن بأن أساسها قد وضعه الله على جبل سيناء وان طقوس خيمة الاجتماع بكل تفاصيلها من ترتيب الله نفسه. ومع اعتقاده بأن الروح القدس كان يحرك شفاه أنبياء العهد القديم لتتكلم بأقوال الله. ومع أنه يذكر ان سحابة من القديسين قد وجدوا في ناموس موسى خلاصاً وتعزية وراحة. إلا أنه بمقارنة كل هذه الميزات بيسوع المسيح الممثل الفكرة الجديدة عنا لله، حسب اليهودية بكل طقوسها وأبهتها وعظمة هيكلها خسارة. خسارة بالنسبة لمعرفة ذاك الفادي الذي مزق الحجاب واتاح للنفس المؤمنة أمام الله المتجسد لتنال برها. لقد قارن ناموس المسيح بفاعلية الطقوس اليهودية وعلى رأسها الختان فقال بكل احترام: لقد مارست الختان طبقا لنصوص الشريعة، وهذا جميل حقا ان تُحترم فرائض الديانة وتُوقر. أن نحترم فرائضنا المسيحية وخصوصا العشاء الرباني. الذي يشيع في القلب فرحاً مقدساً اذ يُشعر النفس المؤمنة انها في حضن فاديها الرب. هكذا كانت فرائض العهد القديم تشعر ممارسيها الأتقياء انهم موضوع عناية الله. ولكن بولس يقول: مع أني أجلّ هذه الفرائض وقد مارستها بخشوع إلا أنني حين أقارنها بالمسيح أجدها كقبر جثسيماني الفارغ، الذي أخبرنا بأن المسيح غلب الهاوية والموت بقيامته. لقد كان امتيازاً عظيماً انيُختن المولود في اليوم الثامن، لأن الختان كان بمثابة شهادة وختم بأن ممارسه من جماعة الله.

صحيح ان الأممي المتهود كان يُختن أيضا في اليوم الثامن لتهوده، ولكن ختانه يبرهن ان ليس كل مختون تجري في عروقه دماء ابراهيم. أما بولس فيقول: أنا ولدت من سلالة يعقوب، الذي دعي اسرائيل الله ومن سبط بنيامين الذي مسح منه أول ملك على الشعب بأمر الله. وفوق هذا فبولس عبراني من العبرانيين أي ان دم أسرته لم يختلط بدم الأمم. ومع ذلك فقد صرح بوضوح ان لا قيمة لهذه الاعتبارات بجانب المسيح. لأن النفس التي تقبل المسيح تصير رعية مع القديسين وأهل بيت الله. هكذا قال الانجيل: «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ» (يوحنا 1: 12).

الكلمة الثانية، المسيحية والفريسية: كان الفريسيون نخبة الأمة اليهودية، غيارى لله، أتقياء مدققين في الدين، محافظين على المثل العليا. ومن هنا كان فخرا لبولس أن يقول: «مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ» (فيلبي 3: 5). صحيح ان كلمة فريسي في أيامنا تثير الاشمئزاز لانها تعني في لغتنا الدارجة الكبرياء والغطرسة والرياء. ولكن في زمن بولس كان الفريسي مثالا للخلق الكريم وصفاء العقيدة واستقامة الرأي. ولكن في ازاء المسيح حسب الرسول الفريسية بلا قيمة. وكان مستعداً لأن ينبذ من الجماعة ويعامل كمرتد عن دين الآباء وحسبه تقويضاً ان عرف المسيح وفي المسيح وجد الصراط والحقيقة والحياة.

الكلمة الثالثة الاستشهاد بالغيرة: قال: «مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الْكَنِيسَة» (فيلبي 3: 6). فقد أخبرنا التاريخ انه ما ان أعلن رؤساء اليهود حرب الإبادة على المسيحيين حتى حمل شاول (بولس) لواء الجهاد وراح يصول ويجول في كل أنحاء فلسطين ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب. وهو لم يقتنع بالهجوم على اجتماعاتهم العامة بل كان يسطو على البيوت ويجر النساء الوديعات القديسات والأطفال الأبرياء والرجال المسالمين الى المجامع للمحاكمة والجلد والسجن والقتل. وقد فعل ذلك كله للاشتهار بالغيرة، من جهة، واستئصال المسيحية من جهة أخرى. ولكنه إذ كان جاداً في نقل أعمال الإبادة الى خارج فلسطين، وقف يسوع في وجهه، فيما هو ذاهب الى دمشق للتنكيل بجماعة الرب. هناك في الطريق أبرق حوله نور عظيم أقوى من لمعان الشمس. ومن وسط النور سمع صوتا يدعوه باسمه «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ» (أعمال 26: 14). وفي بهاء ذلك النور انزاحب الغشاوة عن بصيرته ليرى ان غيرته لليهودية دفعته الى التصادم مع الله بالذات.

وفي اعلان ذلك النور أدرك فظاعة الحرب التي أثارها على كنيسة الله التي اشتراها بدمه. فخر على وجهه وسأل بانكسار عما يجب ان يفعل فأجابه الرب المقام: قم وقف على رجليك لاني لاجل هذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت. أنا أرسلك الى اليهود والامم لتفتح عيونهم من ظلمات الى نور، ومن سلطان الشيطان الى الله، حتى ينالوا باسمه غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين.

وهكذا تحول المضطهِد الى مضطهَد لأجل انجيل المسيح. واذ وقف يقارن بين الشهرة التي كان يسعى اليها ونكران الذات الذي دعي اليه: في أوجاع وآلام ومشاق وجوع وعري وسجون وجلد. قال: لقد ارتبطت نفسي بالمسيح، ومع المسيح ارتبطت بالصليب والآلام والأحزان والخسائر. ولكن هذه الآلام مع حدتها، وهذه الأوجاع مع عنفها، وهذه الخسائر مع فداحتها، صارت مع المسيح صفقة رابحة. صحيح انه لشرف عظيم أن يكون انسان من نسل ابراهيم، وانه لامتياز عظيم ان يبني انسان لنفسه صيتاً عظيماً، وانه لأمر عظيم الشأن ان يحمل انسان في صدره غيرة شديدة. ولكن الرسول حسب ذلك خسارة أمام محبة المسيح.

الكلمة الرابعة المسيح والبر الذاتي: من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم قال الرسول، والواقع اننا حين نقرأ قوله أمام الجميع: اني بكل ضمير صالح قد عشت الى هذا اليوم نفهم كلمة بلا لوم، تعني ان بولس لم يتعمد اغفال أية وصية في الناموس الادبي أو الطقسي. ما أكثر الذين تحملهم استقامتهم الشخصية على الاعتقاد بأنهم بلا لوم ولا عيب، فيشكرون الله، لأنهم ليسوا مثل السكيرين والقتلة واللصوص والمحتالين. ثم لا يلبثون ان يميلوا الى تعداد فضائلهم، قائلين: أنا أذهب الى الكنيسة وأمارس كل فروضها وأدفع لها من مالي بسخاء وأظبط لساني. أوليست هذه حال الكثيرين من مسيحي أيامنا؟ انهم راضون عن أنفسهم تمام الرضى حتى إذا ما سمعوا عظة تدعو الناس الى التوبة قالوا: ما أجملها من عظة!

هذا النوع من الناس يصعب ان يُربحوا للمسيح لأنهم أبرار عند أنفسهم، والمسيح قال: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة» (لوقا 5: 32). بولس لم يكن من هذه الفئة المقتنعة ببرها الذاتي، بل حين عرف المسيح ألقى ببره الشخصي بعيدا وقال: «وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ» (فيلبي 3: 9).

تمثل ببولس يا أخي، وألقِ ببرك الشخصي بعيدا فثوب البر الذي نسجته لنفسك من خيوط أعمالك وغيرتك، اذا ما وقفت به في نور العرش الأبيض العظيم سترى انه مجرد خرق بالية. انه يشبه الثوب الذي صنعه آدم لنفسه من ورق التين، والذي لم يستطع ان يستتر به خزي عورته. فاختبأ من وجه الرب. البر الذاتي يا أخي هو بر الإنسان الساقط لذلك فهو ساقط نظيره. انه محاولة لإرضاء الله بالأعمال والكتاب يقول: ليس من أعمال لئلا يفتخر أحد. هذا الخطأ وقع فيها الربي سمعان بن يوشاي اليهودي فقد افتخر بأعمال بره. اذ قال: لو وُجد في العالم باران فقط، لكانا «أنا وأخي» أما لو وُجد بار واحد فقط لكنت أنا ذلك الواحد. البر الذي من الله بالايمان لا يتطلب بذل أي مجهود شخصي، اذ هو مؤسس بحكمة الله ومقدم بنعمة الله المتفاضلة جدا. البر الذي من الله بالايمان يقول: «لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ أَيْ لِيُحْدِرَ ٱلْمَسِيحَ، أَوْ مَنْ يَهْبِطُ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ؟ أَيْ لِيُصْعِدَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لٰكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ أَيْ كَلِمَةُ ٱلإِيمَانِ» (رومية 10: 6-8). فشرط الخلاص هو أن تمد يد الإيمان لقبول ما يقدم المخلص المقام. وهو يقدم لك بره مجاناً، البر الذي صنعه بموته الكفاري. البر الذي هو الى وعلى كل الذين يؤمنون لانه لا فرق «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3: 23).

قرأ العالم هوكر توماس قول الرسول ان «الله جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ »(2كورنثوس 5: 21). وبعد أن تأمل فيها بعمق، أخذ قلمه وكتب على هامش كتابه المقدس: هذا ما كنت أريد أن أعرفه، ان الانسان أخطأ وان الفادي قد تألم وان الله أخذ على عاتقه خطية الانسان وان الانسان يستطيع ان يأخذ لنفسه بر الله.

يا أخي ثق ان المسيح البار صار خطية لأجلك لتصير أنت باراً بنعمة الله. لا تتكل على برك لأن الكتاب يقول ليس من بار بين الناس ليس ولا واحد. فقط آمن بالذي يبرر الفاجر فيلبسك بره وينقلك الى ميراث القديسين في النور.