العودة الى الصفحة السابقة

«فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَات» (فيلبي 3: 20)

بهذه العبارة خاطب الرسول بولس مؤمني فيلبي، مذكراً إياهم بحقيقة الدعوة المسيحية التي صيرتهم مواطنين حقيقيين في أورشليم الجديدة. وكأنه يقول لهم: لتكن حياتكم متفقة مع دعوتكم العليا كمواطنين في المدينة السماوية الذين حياتهم مستترة مع المسيح في الله.

حين سأل فرعون يعقوب أبا الأسباط: كم هي سني حياتك؟ أجاب: «أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً» (تكوين 47: 9). وقال داود في إحدى صلواته: «نَحْنُ غُرَبَاءُ أَمَامَكَ، وَنُزَلاَءُ مِثْلُ كُلِّ آبَائِنَا. أَيَّامُنَا كَالظِّلِّ عَلَى الأَرْضِ» (1أخبار 29: 15).

ونحن أيها الأحباء، كم يجدر بنا أن نتمثل بقديسي الأيام السالفة، فنقر بأننا غرباء ونزلاء على الأرض وبأن السماء هي موطننا الحقيقي. في ختام حديثه الى نيقوديموس قال الرب يسوع: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13). ولعله أراد أن يؤكد ان السنين التي قضاها لم تجعل منه مواطنا أرضيا وانما هبط من سماء مجده الى دنيانا لافتقادنا في تواضع عجيب. واتفاقا مع هذه الحقيقة ولد في مذود مستعار ودفن في قبر مستعار. وقد صرّح بأنه غريب بقوله للكاتب الذي أحب ان يتبعه «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متّى 8: 20). ومثله فعل مختاروه القديسون، اذ أقروا بأنهم غرباء لذلك لا يستحي بهم الله ان يدعى الههم لأنه أعد لهم مدينة.

قالت سيدة تقية: ليس المسيحي إنسانا قلبه على الأرض ونظره في السماء وانما هو إنسان يعيش على الأرض وقلبه في السماء. معتبراً نفسه غريبا كل أيام حياته. ولهذا هو في خلاف مستمر مع أبناء هذا العالم. وهو اذ يردد كلمة ربه وفاديه. لست من هذا العالم أنا من فوق، يصرّون بأسنانهم ويتضجرون من وجوده بينهم لأنه ليس منهم فعلاً:

قال يسوع «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ» (يوحنا 15: 19). في الواقع هل ينتظر من أبناء هذا الدهر ان يدركوا ما معنى ان يكون الانسان مسيحيا حقيقيا؟ لأن ابليس «إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 4). انهم كما قال الرسول: «مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ» (أفسس 4: 18)فقدوا الحس لئلا يفهموا لغة المختارين وبالتالي لا يمكنهم ان يقبلوا نظامهم الاجتماعي المبني على كلمة الله. ولهذا يقول الانجيل: «لاَ تَتَعَجَّبُوا يَا إِخْوَتِي إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ» (1يوحنا 3: 13). كانت لحظة خالدة حين أعفى بولس من الجلد قبل محاكمته في أورشليم. وكان السبب في هذه المعاملة الممتازة جنسيته الرومانية. فكم بالحري أنت، حين تُعفى من قصاص الدينونة الرهيب بسبب الجنسية السماوية التي وهبت لك في المسيح يسوع.

قال يسوع: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَة» (يوحنا 5: 24). وقال رسوله الكريم بولس: «لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ» (رومية 8: 1). هللويا! شكرا للمنعم الجواد لأن جنسية السماء تُعطى مجانا لكل من يقبل يسوع. فيتمتع بامتيازات مواطني المدينة السماوية ويُكتب اسمه في سجلاتها.

قد يوجد بين الناس من لا تجذبهم فكرة الوطن السماوي المعد للمؤمنين. فهؤلاء ليتهم ينتبهون الى هذه الحقيقة ويجعلونها موضوعا لتفكيرهم، وعندئذ سيندهشون بأن يروا قوة تدفعهم للانفصال عن تفاهات هذا العالم. ويمتلئون بشوق عارم الى الانضمام الى مواطني أورشليم العليا فيشاركون داود في رغبته الملحة التي عبر عنها بالقول: «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي» (مزمور 27: 4). ولا يلبثون ان يطبعوا سلوكهم بحسب قوانين تلك المدينة كما جاءت في عظة المسيح على الجبل.

أيها الأحباء

لا ريب في أن الانتساب للمدينة السماوية يشيع الفرح في القلب. لأن ملكوت الله قال الرسول: بر وسلام وفرح في الروح القدس. وهو يبعث الفخر المقدس في النفس، لانه حين تزول ممالك العالم وتتلاشى العروش كما تتلاشى فقاقيع الصابون، تبقى المدينة السماوية الى الابد لانها مؤسسة على البر والحق.

قال يوحنا الرائي الملهم في وصف امتيازاتها «وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ ٱلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً: هُوَذَا مَسْكَنُ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلنَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَٱللّٰهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلٰهاً لَهُمْ. وَسَيَمْسَحُ ٱللّٰهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَٱلْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ. وَلَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ وَالْخَرُوفُ هَيْكَلُهَا. لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا . وَتَمْشِي شُعُوبُ الْمُخَلَّصِينَ بِنُورِهَا، وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ» (رؤيا 21: 2-4 و22 و23 و24 و27). فمن لا يفتخر بحق ان ينتمي اليها؟ غير ان الانتماء اليها يتطلب من الإنسان أن يغلب. هكذا قال المسيح: «مَنْ يَغْلِبُ َأَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْمَ إِلهِي، وَاسْمَ مَدِينَةِ إِلهِي، أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ إِلهِي» (رؤيا 3: 12). وكلمة يغلب هنا تعني الانتصار على أهواء العالم وشهواته، وهذا لا يستطيعه انسان ان كان هو نفسه جزءا من العالم. ولهذا يجب على الانسان المسيحي ان يتمثل بسيده وفاديه في الانفصال عن العالم الذي وضع في الشرور. وأن يتقدم اليه من دائرة الله العليا. وهذا ميسور له ان هو اتحد بالمسيح.

أيها الأحباء

اننا نلاحظ في الفصل الذي تلي علينا من الرسالة الى أهل فيلبي انه كان في قلب الرسول الكريم حزن شديد من أجل المرتدين الذين صيرتهم الخطية أعداء صليب المسيح. فبكاهم بدموع سخينة لأنهم بعدما عرفوا الحق تنكروا له. وبعد أن استناروا مرة وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الاتي، سقطوا باختيارهم. ولهذا لا يمكن تجديدهم للتوبة اذ هم يصلبون لانفسم ابن الله ثانية ويشهرون به.

في الحقيقة ان جماعة الملاحدة كـ ولتير وجون ستيوارت وهربرت سبنسر وغيرهم، لم يزعجوا ديانة المسيح بقدر ما أزعجها الذين ادعو المسيحية، وحملوا اسم المسيح وهم خلو من نعمة قوته والذين وصفهم الرسول بأن لهم صورة التقوى وهم منكرون قوتها. يفتكرون في الأرضيات وهم عبيد التراب. انهم يفتخرون بما يجب ان يخزوا فيه، الههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، والهلاك الابدي نهايتهم.

قيل عن رجل ثري انه أفرز قاعة فسيحة في داره وجعلها كنيسة. ولما شاهدها أحد الزوار وكان ممن حصروا أفكارهم في الجسديات وخصوصا المآكل الشهية، قال لصاحب البيت: ان بيتك لفخم حقا ولكن أشير عليك ان تلغي هذه الكنيسة وتحول هذه القاعة الى مطبخ فخم. فأجابه صاحب البيت: لا يمكنني أن أحول كنيستي الى مطبخ إلا اذا جعلت بطني الها لي! أه! كم من الناس لا يفكرون إلا في نهم الجسد ليشبعوه أكلاً وشرباً وفجوراً. هؤلاء ليست لهم كنيسة، بل كل شيء عندهم أما مطبخ أو مكان لهو. فان سيرتنا نحن هي في السموات قال الرسول وانه لقول رائع يذكرنا بوصيته لاهل كولوسي ذا قال: أطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله.

ونحن أيضا يجب أن نركز اهتمامنا على السماء التي منها ننتظر عودة الرب يسوع، الذي بحسب وعده سيظهر ثانية للإتمام خلاص الذين ينتظرونه في سيرة مقدسة وتقوى. ونحن في انتظاره لنثبت في ايماننا ونجتهد لنوجد عنده بلا دنس ولا عيب في سلام ويكون لنا ثقة ولا نخجل في مجيئه. آه! متى تفتح تلك الابواب اللؤلؤية حتى يخرج ذلك الموكب الجديد؟! متى يأتي السيد الرب في غبش الظلام، ممتطيا فرسه الابيض وخلفه جند السماء؟ آه! متى يأتي المؤمل المنتظر؟! ليغير شكل جسد تواضعنا الى شبه جسد مجده؟!

يقال ان المواشي المنقولة في السفن ما أن تقرب من البر وتشم رائحة العشب حتى تنتعش وتقف رافعة رؤوسها كأنها أحست بأن ارتحالها قد انتهى وانها عائدة الى المراعي الخضراء. هكذا ينبغي ان ننظر بعين الرجاء المنتعش الى مجيء المسيح، الذي عند مجيئه سيبطل كل رياسة وسلطان ويخضع كل شيء لنفسه. ويكمل خلاصنا الذي بدأ بالغفران يكمل أخذنا الى المنازل البهية التي أعدها في بيت الاب.

لعلكم أيها الأحباء تعلمون الآن لماذا التفت الرسول الى أهل فيلبي وخاطبهم بالقول: «يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ وَالْمُشْتَاقَ إِلَيْهِمْ، يَا سُرُورِي وَإِكْلِيلِي، اثْبُتُوا هكَذَا فِي الرَّبِّ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ» (فيلبي 4: 1) اثبتوا الى المنتهى بانتظار رجاء المجد الرب يسوع الاتي ليغير شكل أجسادكم الضعيفة باعطائها طبيعة جسده المقام من الاموات، ثم ينقلكم الى وطنكم السماوي. نعم لنثبت في الرجاء الذي هو مرساتنا المؤمنة والمتشبثة في وعود الله الصالحة الأمينة ولنتمسك بما عندنا محترسين ان نخسر جعالتنا. هكذا قال الرب يسوع: «تَمَسَّكْ بِمَا عِنْدَكَ لِئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إِكْلِيلَكَ» (رؤيا 3: 11). ونحن بحسب وعده ننتظر سماء جديدة وأرضا جديدة يسكن فيه البر. لذلك لنبن أنفسنا على الإيمان الأقدس مصلين في الروح القدس. ولنحفظ أنفسنا في محبة الله منتظرين رحمة ربنا يسوع للحياة الأبدية. ولننمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد الان والى يوم الدهر آمين.