العودة الى الصفحة السابقة

«فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 27)

من أروع عظات بولس في السلوك المسيحي قوله: «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِباً أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ ٱلإِنْجِيلِ» (فيلبي 1: 27). وأي سلوك أعظم من هذا ان تكون سيرة المسيحي خليقة بانجيل المسيج؟ وأي فرح لقلب الله أعظم من هذا ان تكون سمعة مختاريه مفعمة برائحة المسيح؟ وأي امتياز أعظم من هذا ان يثبت المؤمنون أمام المحن بشجاعة المسيح؟ وأي تمجيد لله أعظم من هذا ان يكون المسيحيون في العالم رسالة المسيح المكتوبة بروح الله؟ «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ». هذه رسالة الله لنا في هذا الصباح، وقد جاءت لتذكرنا بالدعوة التي دعينا بها ان نسلك في البر وقداسة الحق. وأن نعيش حياة الوحدة وفقا لرغبة المسيح التي عبر عنها في صلاته الشفاعية، اذ قال: «احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي. لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا» (يوحنا 17: 11 و21). فلنجتهد لتحقيق مشيئة المسيح في الوحدة، أولاً في البيت. لأن البيت المنقسم على ذاته يسقط. الغيرة تمزق البيت، والخصام يزعزع أركانه والحسد يرسم انهياره. ولنجتهد لتحقيق الوحدة في الكنيسة لأن الكنيسة جسد واحد اسمه جسد المسيح. صحيح انه طبيعي ان يحتفظ كل عضو في الكنيسة بشخصيته وجميل ان يلمع كل حجر في أورشليم الجديدة بضيائه المستمد من المسيح. ولكن يجب ان نحقق الانسجام والتناسق بخضوعنا لمشيئة واحدة هي مشيئة المسيح.

كلنا دعينا في المسيح للسلوك كأولاد نور. وكلنا دعينا لاحتمال بعضنا بعضاً في المحبة، مجتهدين لحفظ وحدانية الروح برباط السلام. «جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُم» (أفسس 4: 4-6). «عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيح» أيضا دعوة لكي نتخلى بروح الشجاعة، أي كما قال الرسول: «غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ، الأَمْرُ الَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذلِكَ مِنَ الله» (فيلبي 1: 28).

في زمن الرسول كان المقاومون ممثلين، أولاً باليهود الذين تعقبوا خطواته، وحاولوا تعطيل رسالته. وثانياً بالأمم الذين حقدوا عليه وجلدوه وألقوا به في السجن. واليوم أيضا يُقاوم المؤمنون ويُضطهدون من أجل المسيح. ففي العالم حكومات عديدة تقاوم مختاري الله لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون في الحق.

قرأت مؤخرا في الجرائد ان رؤساء بعض الحكومات وجهوا لوماً الى الأجهزة العاملة تحت إمرتهم لأن مقاومتهم للمؤمنين خفت حدتها بعض الشيء في الأيام الأخيرة. ومع ذلك فالشهادة المسيحية ما زالت تلمع في كل أنحاء العالم. وكلمة الحق انجيل الخلاص، ما زالت تعمل كل يوم وتنقل كثيرين من الظلمة الى النور.

قال الرب يسوع: «هَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُوَّةً يَسِيرَةً، وَقَدْ حَفِظْتَ كَلِمَتِي وَلَمْ تُنْكِرِ اسْمِي» (رؤيا 3: 8). فشكراً لله لأجل القوة اليسيرة التي لنا، والتي ما زالت تتيح لنا الوقوف لتأدية الشهادة بالرغم من المقاومات. اشهدوا للعالم يا إخوة بما رأيتموه في المسيح واختبرتموه بخلاص المسيح. فالشهادة قوة تغلب رئيس الظلمة وقواته المضادة.

هكذا نقرأ في رؤيا «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤيا 12: 11). في القديم لمعت شهادة الفتيان الثلاثة، حين تحدوا الأوامر الصادرة عن نبوخذ نصر، اذ قالوا له: اننا لا نعبد الهك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته. اما عن تهديداتك إيانا بالحرق فلا يلزمنا ان نجيبك على هذا الأمر هوذا إلهنا الذي نعبد يستطيع ان ينجينا من أتون النار المتقدة. ولمعت الشهادة على وجهي يوحنا وبطرس حين أنذرهما رؤساء اليهود بالتوقف عن التكلم باسم يسوع، اذ قالا: لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا. ولمعت الشهادة على وجوه الرسل مجتمعين حين قالوا لأعضاء مجلس الأمة اليهودية: لا يمكننا تلبية رغبتكم في الامتناع عن المناداة باسم يسوع المسيح لأنه «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ (أعمال 5: 29).

ولمعت الشهادة على وجه بطل الإصلاح مارتن لوثر حين قال أمام الكرادلة، الذين اجتمعوا لمحاكمته في مجمع ورمن: اني لا أقدر ان اخضع إيماني لا للبابا ولا للمجامع. لأنه واضح كالنهار انهم قد غلطوا وضادوا بعضهم بعضاً. فما لم اقنع اذا بواسطة شهادة آيات الكتاب المقدس أو أن يربطوا ضميري بكلام الله لا أقدر ان أرجع ولن أرجع لانه غير أمين للمسيحي ان يتكلم ضد ضميره. فلتكن لنا ضمائر حية في الرب، فلا نساير أبناء هذا العالم في أفكارهم وبذلك نوقد فتيلة لا تستطيع قوة في الوجود ان تطفئها.

نعم بمثل هذه الأقوال الجريئة ظهرت القوة التي كانت تعمل في نفوس شهود يسوع الابرار. قد تبدو الشهادة من هذا المستوى مستحيلة لابناء هذا العصر ولكن في تاريخ كنيسة المسيح سجل بسحابة من الرجال والسيدات الذين بالايمان تقووا من ضعف وتغلبوا على قوات الشر. وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لانها عرضت عليهم بثمن الرجوع عن المسيح فادي نفوسهم ومخلصها.

«عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيح» هذه دعوة الثبات في المسيح وفي كلمة المسيح وفي محبة المسيح. مطلوب إلينا ان تقف ثابتين بهدؤ وعزيمة قوية لكي نثبت ضد مكايد إبليس. اثبتوا ممنطقين احقائكم بالحق، قال الرسول للأفسسيين وقال للفليبيين اثبتوا في الرب. اثبت مثل دانيال الذي لم يكف عن ولائه لله. رغما من الضيقات التي اجتازها فرأى عاقبة الرب وكانت كلمته له: لا تخف أيها الرجل المحبوب، سلام لك تشدد وتقّو. اثبتوا فيّ وأنا فيكم، قال الرب يسوع، «أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 15: 5). فلنثبت في المسيح بالايمان ليثبت هو فينا بالروح القدس الذي يقوينا ويرشدنا ويعلمنا. وينشئ فينا ثمر الروح الذي هو في كل بر وصلاح وحق. ولنثبت في كلام المسيح فيثبت كلامه فينا وتكون الصلاة المستجابة التي تقدر كثيرا في فعلها. أجل ان ثبتنا في المسيح وفي كلامه ننال نعمة في عيني الآب ونتمتع بشفاعة الابن فيستجاب سؤلنا. وتكون لنا الحياة المستقيمة التي تثمر لمجد الله، تواضعا ووداعة وطول أناة وقوة احتمال في المحبة حتى في أصعب الظروف والأحوال.

ظل القس نيوملر الألماني زمناً طويلاً في الاعتقال بأمر من هتلر والعالم لا يعرف من أمره شيئا. ولكن حين استطاع بطريقة سرية الاتصال بأصدقائه قال لهم: بلغوا الجميع عن لساني انني كسفينة هب عليها إعصار شديد ولكنها مربوطة بمرساة والله صالح والحبال متينة.

«عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيح» هذه دعوة لاحتمال الالام من أجل المسيح. قال الرسول: «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ. إِذْ لَكُمُ ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ» (فيلي 1: 29 و30) يا لعظم الشجاعة التي تبثها هذه الكلمات في نفوس مؤمني فيلبي! فقد عرفوا من خلالها ان الرسول ينظر اليهم كرفقاء في الجهاد فاقتدوا به محتملين أشد أنواع الاضطهاد.

لا تتعجبوا يا إخوتي ان يحسب الرسول بولس الآلام من أجل المسيح هبة من الله. فقد سبق للرسول الكريم ان اختبر الضيقات في أشد صورها. والضيقات انشأت عنده قوة هائلة من الصبر وقد عبر عنها بقوله: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية 8: 36 و37). فليتنا نتقبل الآلام التي يسمح الرب بوقوعها علينا كهبة ثمينة شاكرين رجل الأوجاع ومختبر الحزن الذي أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. ولنسأله السماح لنا بالدخول الى بستان جثسيماني لنسهر ساعة واحدة معه.

يا أخي الكريم المتألم اذكر ان آلامك ثمينة في عيني الله وان جزاؤها عظيم جداً. لأنك حين تجتازها حبا بالفادي يرى الله ابنه فيك مصلوبا من أجل الحق. في فجر الاصلاح نظرت فتاة سكتلاندية زميلة لها تدعى مارغريت وهي تستشهد من أجل ايمانها. فقالت: اني لا ارى مارغريت تذوق آلام الموت بل أرى يسوع رب المجد نفسه يتألم في عضو من أعضائه. في الواقع ان المسيح لم يقل لشاول الذي نكل بالمسيحيين لماذا تضطهد خاصتي بل قال له شاول شاول لماذا تضطهدني. قال القديس فرنسوا الأسنيري في احدى صلواته: ايها الرب يسوع اعطني قبل موتي ان أشعر ولو بجزء من الالم الذي تألمته لاجلنا. واشعرني في قلبي ولو بهبوب نسيم تلك المحبة التي اضطرمتفي قلبك لخلاصنا. حقا انها لصلاة عميقة! صلاة تلتقي مع رغبة رسول الامم بولس لما قال: لاعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته. فلنجاهد منذ الان لنعرف رب المجد في شركة آلامه لنصير الى قيامته عالمين ان انساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية.