العودة الى الصفحة السابقة

«ٱلْمَجْدُ لِلهِ فِي ٱلأَعَالِي» (لوقا 2: 14 - ج)

منذ ما يقرب الألفي سنة هبط ملاك الرب الى دنيانا يحمل أجلّ وأقدس بشرى الى عذراء فقيرة من ناصرة الجليل. «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ. َقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ» (لوقا 1: 28 و30-32).

ولعل المنطق البشري اذ يرتاح الى هذه البشرى السعيدة يقول: ولكن أما كان ينبغي على الأقل أن تزف الى أهل أورشليم مدينة العلي؟ ثم تذاع من قلبها النابض في هيكل الله وقدس أقداسه؟ ولكن الله لم يعبأ بمقاييس الناس واستحسانهم فأرسل البشرى الى الجليل، جليل الأمم حيث تخيم ظلال الوثنية القاتمة. والى مدينة الناصرة بالذات، المدينة التي قيل عنها: أمِنَ الناصرة يخرج شيء صالح؟! لقد رفض الله كبرياء اليهودية التي تبرر نفسها من الشوائب. وسخر من ادعائها القداسة وعدم اللوم وأدان لسان حالها القائل:

أشكرك اللهم اني لست كباقي الناس الخاطفين الزناة، ولا مثل هذا العشار. الواقع، ان يسوع لم يأت لأجل هؤلاء البررة في أعين انفسهم، فقد قال علانية: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة» (لوقا 5: 32). وحين أخلى نفسه وهبط الى الدنيا اختار المذود لكي لا يتسنى للقصور المنيفة ان تفتخر على الاكواخ المتواضعة. تمشيا مع حكمته القائلة بفم رسوله الأمين بولس «ٱخْتَارَ ٱللهُ جُهَّالَ ٱلْعَالَمِ لِيُخْزِيَ ٱلْحُكَمَاءَ، وَٱخْتَارَ ٱللّٰهُ ضُعَفَاءَ ٱلْعَالَمِ لِيُخْزِيَ ٱلأَقْوِيَاءَ، وَٱخْتَارَ ٱللهُ أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ وَٱلْمُزْدَرَى وَغَيْرَ ٱلْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ ٱلْمَوْجُودَ» (1كورنثو 1: 27 و28). بمعنى انه تبارك اسمه في موكب تجسد الاله أكد انه لا فرق بين كبير وصغير بين غني وفقير، بين شريف وحقير.

فحين تجسد الرب، هبط ملاك الله ثانية الى الارض وحياها في شخص جماعة من الرعاة البسطاء قائلا: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ». وفيما هو يتكلم «ظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللهَ وَقَائِلِينَ: ٱلْمَجْدُ لِلهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّة» (لوقا 2: 10-15). نقرأ في الكتاب المقدس عن مناسبتين ترنمت فيهما الملائكة:

الأولى: حين أكمل الله خليقته وانتظمت الكواكب في مجراتها ولبست الأرض جلباب حياتها ورأى الله ان كل شيء حسنا. يقول الكتاب، «عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟» (أيوب 38: 7). الا ان الخليقة التي أبدعها الله على أحسن تقويم، لم تلبث ان انحدرت في مهاوي السقوط. فراح الموت يصارع الحياة والظلام يقتتل مع النور والباطل يناوي الحق. الى ان جاء ملء الزمان فأشرقت شمس البر والشفاء في أجنحتها، لتبدد الظلام. فتم المكتوب: «اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إشعياء 9: 2). فقد جاء الى الدنيا المشرق من العلاء متجسدا في عمانوئيل ليصير الله معنا. وعندئذ سمعت ترنيمة الملائكة الثانية في ربى بيت لحم: «ٱلْمَجْدُ لِلهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14).

ولعل المنطق البشري قال ثانية، كان يجب ان يرن نشيد المجد في أبهى وأفخم قصور الملوك، أو في أقدس وأجل معابد الأرض. وأن يكون السامعون من فلاسفة اليونان وعظماء الرومان وصفوة اليهود. ولكن الله الذي قال: «أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي» (إشعياء 55: 8)، شاء أن يرن في البرية وان يكون السامعون نفراً من الرعاة الذين يحسبهم الناس أدنياء. فيا له من أمر عجيب! أفيُسمع الله أجل وأروع نشيد سمعته الأرض لهذه الجماعة؟!

لا تعجب يا أخي، فتلك حكمة السماء في إنزال الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين. المسيح نفسه تهلل وقال: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى 11: 25). نعم هكذا صارت المسرة أمامك ان تُسمع السماء ألحانها المجيدة أولا الى رعاة بسطاء. هذا هو فكر الرب، ان من يضع نفسه يرتفع ومن يرفع نفسه يتضع. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. ويقينا ان العالم سيبقى متخبطا في فوضائه ما لم يرجع الى فكر الله، ويحني هامته أمام طفل المذود ليتعلم منه معنى الرفعة الحقيقية. عيب العالم يا اخوتي هو انه في استكباره لا يقبل مبادئ المسيح. وقد شهد عليه في جيلنا الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل استاذ المنطق اذ قال: ان العالم المسيحي الذي يمجد المسيح لا يقبل اليوم شخص المسيح. فلو جاء المسيح الآن الى بريطانيا لصار موضع ريبة الاستخبارات البريطانية، ولو هبط في أمريكا لامتنعت عليه الجنسية الأميركية لسبب نفوره من السلاح.

أجل ان هذا هو أصل الشر في العالم انه لا يقبل المسيح في شخصه وتعليمه. وما لم يرجع أقطاب العالم عن غيهم وينطلقوا مع الرعاة البسطاء الى مذود بيت لحم، فلن يكون للعالم من راحة أو استقرار أو سلام، لانه لا سلام قال ربي للاشرار. المجد لله في الاعالي قالت الملائكة في شدوها المجيد.

المجد لله، هذا هو الينبوع المتدفق الذي منه انحدرت نعمة الميلاد. وعلى الارض السلام، هذه هي بركة رسالة الميلاد لكل العباد.وبالناس المسرة، هذا هو الشيء الذي كان في فكر الله. انه يسر بخلاص كل الناس. «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي» (لوقا 2: 14) هذه رسالة عمانوئيل الله صار معنا ليتمجد بخلاصنا. «وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَم» (لوقا 2: 14) هذه رسالة الميلاد ان يقبل سكان الارض رئيس السلام. لقد جعلتهم الخطية الخاطئة جدا في حال عداوة مع الله ومع بعضهم. وعبثا يحاولون الحصول على السلام بأعمال التقى. لأن الخطية تأصلت في قلوبهم وحيث الخطية لا سلام. ولهذا تجسد الكلمة وصار وسيط صلح بين الله والناس، وقتل العداوة بدم صليبه فصار لكل مؤمن به سلام مع الله.

أجل انه من هناك من المذود انطلق السلام ليحل في قلب كل من يقبل يسوع، ويجعل منه إنساناً جديداً صانعاً سلاماً. حين سطع نور المشرق من العلاء انجذبت اليه الأنظار. وسرعان ما جاء منتظروه اليه بدافع من أشواقهم المقدسة. ليسجدوا للذي ملأ طيفه رؤى الأنبياء وأحلام الشعب. وكان في مقدمة الوافدين مجوس أتوا من المشرق قائلين: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (متّى 2: 2). ولما صاروا أمام المذود خروا وسجدوا له وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ومرا ولبانا. كان هؤلاء المشارقة من عباد النار، فلما نظروا اليه واستناروا صاروا من عباد النور، والله نور وليست فيه ظلمة البتة. كانوا في كورة ظلال الموت، فاهتدوا الى نور الحياة. وسجدوا لنور العالم فصاروا من أبناء النور. كانوا ثلاثة كما يستدل من هداياهم الذهب والمر والبان. ويقول التقليد انهم كانوا ملوكا أو على الأقل أمراء. على كل فأيا كان العدد فهلم بنا نرافق هؤلاء العظماء بالفكر الى المذود لنسجد معهم لرئيس السلام. ونقدم له هدايا.

لنسجد له بالروح والحق ونقدم له أجسادنا ذبائح حية مقدسة مرضية عبادتنا العقلية، ولا نشاكل هذا الدهر بل نتجدد بروح ذهننا لنختبر ما هي اراضة الله الصالحة المرضية الكاملة. واني لأتصور ان المجوس قالوا في سجودهم شكرا لله لأنه تجسد وصار واحدا منا. صار عمانوئيل الله معنا، صار فينا يسوع رجاء المجد. كان طيفا يراود أحلامنا فصار حقيقة يزكي امالنا، كان ايمانا يقوي انتظارنا فصار عيانا يثبت رجاءنا.

بعد أن عولجت هيلي كلر العمياء الصماء الخرساء من صممها وخرسها. وصف لها أحدهم يسوع، فقالت ان هذا الشخص الالهي في أحلامي دائما. كنت أحس به قبل ان أعرفه. شكراً لله لان قصة الرعاة والمجوس كتبت في الانجيل المقدس لتبقى نموذجا حيا للمساواة. انها لشهادة واضحة على ان الله خلق الجميع من جسد واحد. وان الجميع واحد في المسيح لا فرق بين ملك وانسان فقير.

أيها الأحباء، في منتصف الليل الفائت قرعت الأجراس في كل العالم ورقصت القلوب طرباً على أنغامها. وارتفع التسبيح من حناجر العابدين وهم يسجدون لملك المذود. ولكن للأسف الشديد ان كثيرين ممن يحملون اسم المسيح عليهم، تسكعوا في علب الليل وسجدوا لآلهة أخرى من دون الله. وان بيوتاً تقيم حفلات ماجنة بين مسكر ومنكر وقمار. وان أطفالا ستحملها ممارسات والديهم الى الاعتقاد بان رموز الميلاد ان هي إلا شجرة ومغارة وبار ومرقص ومائدة قمار. أما أنتم أيها المؤمنون أحباء يسوع الذين اقتناهم بدمه. فالمناسبة تدعوكم الى ان توبخوا هذا العادات القبيحة التي تمارس في أقدس ذكرى. وبخوها بحياتكم كأولاد نور، متذكرين الوصية الرسولية القائلة: «لاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا» (أفسس 5: 11).