العودة الى الصفحة السابقة

«يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّي» (لوقا 11: 1 ج)

في الفصل الرابع من انجيل يوحنا الذي تُلي علينا كشف الرب يسوع عن سر السجود الحقيقي. فقال ان الاب السماوي طالب ساجدين، شرط ان يكون سجودهم لله بالروح والحق. ولكن مع ان هذا السجود امتياز ممنوح للانسان فمعظم العابدين لا يتمتعون به، لان سجودهم سطحي ليس في ما يحرك قلب الله. في حديثه مع المرأة السامرية، أشار الرب يسوع الى ثلاثة أنواع من السجود كانت تمارس في زمنه.

الاول: سجود السامريين الخالي من المعرفة، قال لها: أنتم تسجدون لما لستم تعلمون.

الثاني: سجود اليهود، الحاوي المعرفة. قال نحن نسجد لما نعلم.

الثالث: السجود الروحي. قال تأتي ساعة حين الساجدون يسجدون لله بالروح والحق.

ولنا أن نفهم من قول المعلم الصالح ان السجود الذي يطلبه الآب، ليس مجرد الصلاة التي تمارس بحرارة القلب وشدة الإخلاص. فقد كان السامريون مخلصين في تدينهم وعندهم حرارة قلب. وكذلكم اليهود، كان بينهم أناس طيبون يدعون باسم الرب من كل قلوبهم. ولكن لا هؤلاء ولا أولئك كان سجودهم بالروح والحق. واننا لواجدون هذا الضعف في عبادة معظم المسيحيين أنفسهم. فبعضهم بسبب الجهل، الذي فيهم فيتخذون لانفسهم شفعاء لم يعينهم الله. ولهذا يصلون، ويصلون ولكنهم لا ينالون سؤلهم من الآب. وبعضهم عندهم معرفة ويصلون بالقلب والفكر وحتى بحرارة أحياناً، ومع ذلك لا يبلغون مستوى السجود للآب بالروح والحق. لأنهم مثل اليهود عندهم المعرفة وعندهم الايمان ولكنهم يؤدون السجود في إطار التقاليد، التي تجعل الصلاة نافلة روتينية، وليس شركة مع الاب.

«اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24). هكذا قال يسوع. فبين لنا انه من اللازم ان يوجد توافق بين الآب والساجدين له. لأنه كما ان العين ملائمة داخلياً لقبول النور، والأذن ملائمة لقبول الصوت. هكذا الساجد الذي يروم التمتع بالسجود الروحي يجب أن يكون ملائماً لقبول الروح القدس. وحينئذ يشفع الروح المبارك فيه ويصير عبادته سجودا روحيا. حين كشف المسيح خصوصيات المرأة السامرية بالقول: «كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ» (يوحنا 4: 18)، كان يشير الى العبادة الشائعة عند شعبها والتي تتضمن عبادة الأوثان الى جانب عبادة الله الحي. ويقول ثقات المفسرين ان تلك الإشارة ألهمت السامرية ان تثير أمام يسوع موضوع ذلك الخلاف المزمن بين اليهود والسامريين على مكان العبادة. فالسامريون زعموا ان السجود الحقيقي هو ما مورس في هيكلهم على جبل جرزيم. أما اليهود فجزموا بأن لا سجود حقيقي خارج أورشليم.

يا سيد، قالت المرأة، أباؤنا سجدوا في هذا الجبل واليهود يقولون ان في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه. وأنت الذي أرى انك نبي ماذا تقول في هذا الشأن؟ فأجابها يسوع: يا امرأة تأتي ساعة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للاب. لان عهدا جديدا قد أقبل على العالم بحيث لم تعد العبادة محصورة في هذا أو ذاك المكان. لأن العبادة التقليدية سواء كانت في أورشليم أم في السامرة ترتبط بأمور مادية تقيدها من: مبان وأوان ومذابح ومحرقات.

أما في النظام الجديد فيحظى الناس بامتياز ولادة روحية بها يستطيع المؤمن ان يقدم عبادة روحية تتوافق مع طبيعة الآب أيا كان الزمان والمكان. وكأنى بالمسيح يقول لها: يا امرأة القداسة ليست في الهياكل وما تحويه من أوان مكرسة، أو ما يقام من طقوس منظمة. بل هي في قلوب العابدين، الذين اغتسلوا بل تقدسوا بل تبرروا باسم الرب يسوع وبروح الهنا. فصاروا هم هياكل مقدسة لتقديم ذبائح روحية، وصارت أجسادهم ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله عبادتهم العقلية. في الواقع ان يسوع قد أعلن انه بمجيئه الى العالم زال النظام الذي كان يحصر السجود في أمكنة خاصة. أمكنة فرض على الناس حجها في أوقات معينة من السنة. لقد جاء ملء الزمان الذي تنبأ عنه ملاخي النبي حين قال: «فِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لاسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ، لأَنَّ اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (ملاخي 1: 11).

رضى الله يا أخي، لا يتوقف على المكان الذي تسجد فيه، بل على الروح الذي فيك، والذي به تؤدي سجودك. الله روح قال المسيح، ويقبل الساجدين بالروح أنّى وجدوا. ولا يقبل غير هؤلاء ولو سجدوا في أقدس مكان. الله بكماله اللامحدود يملأ الوجود. لهذا العبادة لا يحدها هيكل ولو كان هيكل سليمان، أو لو كان كاتدرائية مار بطرس في روما.

ونفهم أيضا من كلمة المسيح الله روح والساجدون الحقيقيون هم الذين يسجدون لله بالروح والحق. ان السجود الروحي يحبب ان ينبع منه، له المجد. ولهذا تجسد في عمانوئيل ليصير الله معنا ويحل بالايمان في قلوبنا. وهكذا نستطيع ان نقدم للاب عبادة روحية تلائم طبيعته.

قال يسوع: أنا أرسل لكم المعزي روح الحق الذي لا يستطيع العالم ان يقبله لانه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لانه ماكث معكم ويكون فيكم. انه يرشدكم الى جميع الحق، ويمجدني لانه يأخذ مما لي ويخبركم. وقال بولس: «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ الله» (رومية 8: 16) - الروح نفسه يصلي فينا صارخا يا أبا الاب. انه يحول عبادتنا الى عشرة مستمرة مع أبينا الذي في السموات بحيث لا نكتفي بالجلوس اليه دقائق معدودات، بل ساعات وساعات كما كان يفعل يسوع ربنا.

قال رجل الله القس اندرو موري: ان صلواتنا لا ترتقي الى مجرى صلاة المسيح إلا بالروح القدس. لأن الروح المبارك يرفع قلوبنا الى مورد الحياة. وحينئذ تصير صلواتنا صلوات المسيح فنسأل ما نريد فيكون لنا. والروح القدس لا يمكث فينا ساعة الصلاة فقط بل يكون في حياتنا وسلوكنا كل يوم وكل اليوم. ويمجد المسيح فينا جاعلاً إيانا واحداً فيه وكلاً منا ابناً محبوباً لله.

في يقيني أيها الإخوة ان الصلاة آنئذ لا تكون كلمات مصوغة في قالب الدعاء والطلب، بل إعراباً عن شعور عميق جداً. فتأخذ الصلاة شكل المناجاة التي يشفع فيها الروح القدس بأنات لا ينطق بها. لأن الآب طالب ساجدين حقيقيين يسجدون له بالروح والحق، قال يسوع. والسجود بالحق ليس التعبد باخلاص القلب فقط، بل له معنى أعمق يكمن في اتحادنا بالمسيح يسوع ربنا، الذي قال أنا هو الحق كل من هو من الحق يسمع صوتي. ان ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم. فما أحوج مسيحيي أيامنا الى الحق المحرر لكي يحرر سجودهم من الاوهام التي كانت مسيطرة على عقول السامريين. ولكي يحرر عبادتهم من الحرف الميت الذي كان مهيمنا على عبادة اليهود. حينئذ يتسنى لهم أن يعبدوا الله بجدة الروح لا بعتق الحرف.

من المسلم به ان علاقة الله بالناس قائمة على أساس النعمة والحق اللذين بيسوع المسيح صارا. فالسجود بالحق نعمة، لا يمكن ان تؤدى إلا بالمسيح وبروح المسيح. هذا ما أشار اليه بولس حين قال: بالمسيح صار لنا قدوما بروح واحد الى الاب.

فشكرا لله لاجل النعمة، التي تجري الى كل الذين قبلوا يسوع، لكي تؤهلهم لامتياز الشركة في الطبيعة الالهية التي دعانا اليها الرسول يوحنا حين قال: «الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1يوحنا 1: 3). هذه الشركة المباركة توجد التوافق بين سجودنا وطبيعة الاب، فتصير عبادتنا وفقا لمطلبه الالهي. وننال ما نطلب اكراما للشفيع الوحيد الجالس عن يمين العظمة في الاعالي.