العودة الى الصفحة السابقة

«يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّي» (لوقا 11: 1 ب)

نقرأ في انجيل يوحنا 16 أن الرب يسوع قال لتلاميذه: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئًا بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا 16: 23 و24).

ونلاحظ هنا ان المسيح لم يكتف بالتأكيد بل حث تلاميذه ان يطلبوا باسمه. ومعنى هذا انه حيث يطلب باسمه، يستحيل ان لا يكون جواب. لقد انطلق السيد الرب من التأكيد الى التحريض على الطلب باسمه لاكمال فرح محبيه باعطائهم ما يطلبون. وفي مرقس 11: 24 نقرأ تأكيدا آخر، إذ يقول: «كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ». وفي متى 18: 19 نقرأ تأكيدا ثالثا: «وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَات». ولعل السيد الرب أراد ان يعلمنا بأن الإيمان عامل فعال في الصلاة. والحق ان الإيمان هو الأذن التي تسمع ما يقوله الله. وهو العين التي ترقب وعوده وهي تتحول باسم يسوع الى النعم والامين. وهو اليد التي تمتد لتقبض البركات التي أعدها الله للذين يسألونه باسم المسيح يسوع. ومن الصلوات ما يرتدي طابع اللجاجة فتنال سؤلها بالصبر والانتظار. فالصبر قال الرسول يعقوب «له عمل تام، والانتظار يستميل الله». هكذا قال امام المرنمين داود المختبر: انتظارا انتظرت الرب فمال لي.

وفي تعليمه عن الصلاة قال الرب يسوع: ينبغي ان يصلى كل حين ولا يمل. ونفهم من هذه الكلمة «ينبغي» ان الصلاة بلجاجة ليست فقط من الأمور المستحبة بل هي من الأمور الواجبة. ولعله عملا بهذه الحقيقة، قال الرسول بولس للتسالونيكيين افرحوا كل حين، صلوا بلا انقطاع، اشكروا في كل شيء.

في لوقا 11: 5-8 ضرب يسوع مثلاً في جدوى الصلاة بلجاجة فقال: «مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ». وفي التطبيق قال له المجد: «وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (لوقا 11: 9).

وكأن السيد الرب يقول: لماذا تقرعون أبوابا أخرى لغير جواب. «أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9). وقد تأخذ الصلاة شكل الجهاد الدائب الذي أشار اليه اشعياء بقوله: «يَا ذَاكِرِي ٱلرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي ٱلأَرْضِ» (إشعياء 62: 6 و7). أو انها تتثبت بالرب وتقول له مع يعقوب: لا أطلقك ان لم تباركني.

لنتعلم صلاة الجهاد في اتجاهاتها وأبعادها متمثلين بالرب يسوع، الذي كانت الصلاة بالنسبة له معركة شديدة بين إرضاء السماء وإرضاء بني جيله الملتوي. والذي كان شعاره منذ طفولته: ينبغي أن أكون في ما لأبي. وفي شبابه ظهرت غايته هذه في تصريحه القائل: والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الاب وحدي لاني في كل حين أفعل ما يرضيه.

ويقيني ان المسيح حين كان ينظر الى السماء والى الثواب المعد لأولاد الله، لم يكن يحتسب لنفسه بل احتمل كل شيء حتى عار الصليب. ولهذا قال الرسول: «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ» (عبرانيين 12: 2). وهل ينسى أحد ان تحقيق هذا السرور اقتضاه جهادا مريرا، جهاد أنزله الى ساحة الصلاة في البراري وعلى رؤوس الجبال. ومن لم يستوقفه الجهاد في جثسيماني، حين انفرد يسوع جثا وجاهد، حتى نزل عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. يقول كاتب رسالة العبرانيين انه قدم آنئذ بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات. وذلك لكي يصل الى مذبح الفداء، ليقدم نفسه ذبيحة كفارية عن خطايانا.

ولرب صلاة تأخذ شكل الشفاعة من أجل الغير لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل. هذا النوع من الصلاة مارسه الرب يسوع بصورة خاصة من أجل بطرس، حين عرضت دعوة الصياد لغربلة الشيطان. فصلى القدوس لأجله لكي لا يفنى إيمانه. ومارسها أيضا بصورة عامة لأجل المؤمنين في كل جيل وعصر. إذ قال: «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ» (يوحنا 17: 20). ومما لا ريب فيه ان علم بطرس بصلاة الرب من أجله كان أعظم قوة تثبت إيمانه المنهزم كتلميذ، ورمم دعوته المنهارة كصياد الناس.

وأيضا بولس مارس هذا النوع من الصلاة على نطاق واسع. فقد قال لأهل رومية: أذكركم بلا انقطاع متضرعا في صلواتي. وقال لأهل أفسس: «لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ، ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي» (أفسس 1: 16). وقال لأهل فيلبي: أذكركم دائما في أدعيتي مقدما الطلبة لأجل جميعكم بفرح. وقال لأهل كولوسي: لم نزل مصلين وطالبين لاجلكم لتسلكوا كما يحق للرب في كل عمل صالح. وقال لأهل تسالونيكي: والرب ينميكم ويثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة.

ويخبرنا تاريخ الكنيسة ان هذا النوع من الصلاة قد عمل في تجديد الانفس. كما حصل مع مونيكا، إذ سمع الرب صراخها وجدد حياة ابنها، فصار أغسطينوس أحد أعلام الكنيسة. وهناك قصة عن تجديد امرأة اشتهرت بسوء سيرتها فهذه حين قدمت شهادتها، قالت: وقفت في إحدى اليالي المظلمة تحت شباك خادم الرب جون باتن. فسمعته يصلي من أجلي هكذا: اللهم ردّ هذه المرأة الى الحق. وصيرها درة لامعة تصلح لان يزين بها تاج يسوع في مجده العظيم. فشعرت بأنني حمل ثقيل على قلب هذا الرجل الصالح فتبكت على شروري، ولم ألبث أن ثبت الى نفسي، ورجعت الى الله من كل قلبي.

ويقينا أيها الاخوة ان فوائد الصلاة من أجل الغير لا تقتصر على المصلّى من أجلهم بل انه تتناول المصلي نفسه. فقد جاء في الكتاب المقدس ان الله ردّ سبي أيوب لما صلى لاجل أصحابه وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا. وكذلك هذه الروح في الصلاة يحرر الانسان من أنانيته اذ يجعله يهتم بغيره.

قال أحد الاتقياء: ان الصلاة الشفاعية من أقوى المزيلات للفروق التي طالما فصلت بين انسان وانسان. ولرب صلاة تعمل على تهدئة النفس المضطربة التي جثمت عليها جبال الهموم. ولهذا نرى الرسول بولس يحض أهل فيلبي على ممارسة الصلاة. اذ قال: «لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى الله. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 4: 6 و7). بمعنى اننا قد لا ننال كل ما مطلبه من الله، لان الله حكمة في العطاء، فلا يعطينا إلا ما تراه حكمته الإلهية مناسبا لنا. إلا انه يشيع في قلوبنا سلامه الذي لا تستطيع قوة في الوجود ان تزيله. وفقا لقول المسيح: «سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا» (يوحنا 14: 27).

قال الدكتور هسلوب في اجتماع طبي: انني كرجل قضى معظم حياته بين المرضى والمتألمين والحزانى، أصرح وأشهد ان أفضل علاج للحزانى ومنكسري القلوب والبائسين وقلقي الأفكار هو الصلاة البسيطة.

أيها الأعزاء

ان من الناس من لا يمارس الصلاة إلا نادراً بحجة ضيق الوقت، وبذلك يهملون أجمل وأجل شيء في حياة الإنسان. ويحرمون أنفسهم من أسمى الامتيازات وهي الشركة مع الله. قد يكون وقت الصلاة طويلا أو قصيرا ومتعددا كل يوم. ولكن المهم ليس الوقت بل الصلاة نفسها.

كان رجل الله وايتفيلد أحيانا يصرف اليوم كله في الصلاة. وكان المصلح العظيم مارتن لوثر اذا ما وجد في ظرف حرج يقول: ان واجباتي اليوم كثيرة وخطيرة. فاذا لم أقض ساعتين أو ثلاث ساعات في مخدع الصلاة، فلن أستطيع القيام بهذه الواجبات.

أما سبرجن فقال: لا أقدر ان ألبث طويلا في الصلاة، لأني اذا ذهبت لقبض تحويل البنك فما الفائدة من وقوفي طويلاً بعد أن أكون قد قبضت قيمة التحويل؟ وقال القديس أغسطينوس: لا تقاس الصلاة بعدد كلماتها بل بالروح الذي ترفع فيه.

ونفهم من قول هؤلاء الأتقياء ان طول الوقت وقصره ليس النقطة المركزية في الصلاة. المهم أن تكون لنا شركة مع أبينا السماوي كل يوم، وأن نسجد له بالروح والحق. وأن نقدم له أشواقنا ونبثه نجوانا ونشرح له حاجاتنا فأبونا في السموات ينتظر هذا ويلذ له ان يسمع أصواتنا وهمسات قلوبنا في الخفاء، وهو يجازي علانية.