العودة الى الصفحة السابقة

«يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّي» (لوقا 11: 1 أ)

ليس في الروائع الأدبية كلها ما يماثل في جماله وجلاله هذه الآية التي أستهل بها لوقا الفصل الحادي عشر من بشارته. هذا الفصل الذي دعي هيكل الصلاة ومدرسة الصلاة. وكم هو جميل ان نتمثل نحن بتلاميذ يسوع ونقول له: يا رب علمنا أن نصلي. لم يطلب أولئك التلاميذ. من سيدهم أن يعلمهم الوعظ لأن الوعظ كلام يضعه الروح القدس في فم خادم الله. ولم يطلبوا اليه أن يعلمهم كيف وبماذا يتكلمون أمام الملوك والرؤساء، لأن الآب السماوي بحسب قول المسيح يتكلم فيهم آنذاك. بل سألوه ان يعلمهم كيف يصلون حتى تكون صلواتهم حسب مشيئة الله.

والمعلم الناجح هو من علم تلاميذه من اختباراته الشخصية، فلا يشير عليهم ماذا يفعلون، بل يريهم بالمثال كيف يمكنهم ان يتمموا المطلوب. فبهذا الأسلوب المشبع بحكمة الاختبار قدم السيد الرب لتلاميذه نموذجا حيا للصلاة. نموذجا ضمنه كلمات بسيطة جعلها قاعدة لما يليق التكلم به أمام عرش النعمة. وهذا النموذج البسيط بكلماته، العميق بمعانيه لقب بالصلاة الربانية نسبة للرب الذي وضعه. وقد عقب الرب على عباراته بحض على الطلب اذ قال: «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُم» (متّى 7: 7). واضاف تأكيدا جازما اذ قال: «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ» (متّى 7: 8). وفي هذا تحريض للمصلي ان يسأل ويطلب من الاب السماوي. ويبدو هذا التحريض أشد قوة وأكثر جلاء في يوحنا 16: 23 حيث قال: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ ٱلآبِ بِٱسْمِي يُعْطِيكُمْ». وأيضا هذا التحريض يأخذ شكل الالحاح في يوحنا 16: 24 اذ يقول: «إِلَى ٱلآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِٱسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» . ان حض المسيح وتحريضه على السوءال والطلب يكشفان لنا ان المنعم الجواد مستعد للعطاء. وانه يريد ان يعطي أكثر مما نتوقع بحسب غناه في المجد، وبسخاء وبدون تعيير.

أو بتعبير آخر ان يسوع له المجد أراد أن يرسخ في أذهاننا ان للصلاة قانونا لا يتغير، وهو ان كل من يسأل يأخذ وان من يطلب يجد وان من يقرع يُفتح له. ولكن ان سأل أحد ولم يأخذ فالمعنى ان هناك معطلاً للصلاة. وقد يكون هذا المعطل عدم اليقين بأن الله قريب من الذين يدعونه وانه يسر بأن يفتح يده ويشبع كل حي رضىً. وقد يكون المعطل نتيجة لسطحية المعرفة في أمور الله بحيث يتعذر على المصلي الدخول الى حضرة الله والتعامل معه. ربما سمع عنه في زمن حداثته في البيت أو في المدرسة أو في الكنيسة. ولكن هذا السماعلم يذهب به الى المعرفة التي تأخذ شكل الالفة والمودة. السماع حسن ولكن بدون رؤيا يجمح الشعب، قال سليمان في أمثال 29: 18. وما أجمل ما قاله أيوب في هذا المعنى: «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي» (أيوب 42: 5).

وقد تفشل صلاة البعض لأنهم يمارسونها كفريضة واجبة الاداء، وليس كامتياز خاص بهم. مما يجردها من روح الشوق الذي تعمر به قلوب أتقياء الله مثل داود الذي عبر عن شوقه بالقول: يا الله الهي أنت - «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى ٱللّٰهِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ ٱللّٰهِ!» (مزمور 42: 1 و2). «تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلهِ الْحَيِّ» (مزمور 84: 2). وقد تفشل الصلاة بسبب كثرة الكلام عن الحاجات الشخصية، لان كثرة الكلام تطغو على القسم الأهم في الصلاة من حيث كونها شركة مع الله وهو الاصغاء.

من أجمل الأمثلة على صلاة الإصغاء قول صموئيل في حداثته «تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ» (1صموئيل 3: 9). قال الرسول يعقوب: «لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّم» (يعقوب 1: 19). وقالت الحكمة بفم سليمان: «لاَ تَسْتَعْجِلْ فَمَكَ وَلاَ يُسْرِعْ قَلْبُكَ إِلَى نُطْقِ كَلاَمٍ قُدَّامَ اللهِ، لأَنَّ اللهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْتَ عَلَى الأَرْضِ، فَلِذلِكَ لِتَكُنْ كَلِمَاتُكَ قَلِيلَةً» (الجامعة 5: 2). وقال صموئيل: «هُوَذَا الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ» (1صموئيل 15: 22). ومع ذلك فكم من الناس من يقحمون الله بأقوال لا طائل تحتها، فيصرفون وقتا طويلا في سرد الكلام دون أن يعطوا لحظة ليكلمهم. حضرت مرة اجتماع صلاة تمهيدي لاجتماع الصلاة الجمهورية يوم الأحد صباحاً. وما أن جثونا على الركب حتى انطلقت أخت في صلاة طويلة استغرقت 85٪ من الوقت المعين مما حرم معظم المجتمعين من تقديم صلواتهم. في الكتاب العزيز سحابة من الأمثلة على الصلاة الحية من حياة قديسين توضح العلاقة بين كلام الله وكلامنا نحن حين نصلي. فصلواتهم كانت حديثا متبادلاً بينهم وبين الله ولهذا دعيت الصلاة شركة.

كان كلام الله لهم إما وعداً يضعون عليه اصبعهم ويقولون له افعل كما تكلمت. هكذا قال إمام المرنمين داود: «قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ ٱلْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. أَقِمْ لِعَبْدِكَ قَوْلَكَ الَّذِي لِمُتَّقِيكَ. هأَنَذَا قَدِ اشْتَهَيْتُ وَصَايَاكَ. بِعَدْلِكَ أَحْيِنِي» (مزمور 119: 28 و38 و40). وأما أن يكون تنفيذ وصية كقول المرنم الحلو: «إِلَى الدَّهْرِ لاَ أَنْسَى وَصَايَاكَ، لأَنَّكَ بِهَا أَحْيَيْتَنِي. لَكَ أَنَا فَخَلِّصْنِي، لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ» (مزمور 119: 93 و94). ويمكننا القول باختصار ان حياة القديسين هي نوع من العشرة يتبادلون فيها الأفكار والاقوال مع الله.

قال أحد الأتقياء: حين أصلي أتكلم مع أبي وحين اقرأ الكتاب المقدس يتكلم أبي معي. الواقع ان الصلاة في جوهرها ليست طلبات نتقدم بها الى الله بقدر ما هي محادثة بين الله والانسان. وأيا كانت الظروف والمناسبات يبقى كلام الله جزء فيها. هكذا قال الرب: أميلوا اليّ أذنكم واستمعوا اليّ استماعا.

ونحن أيها الإخوة والأخوات كمؤمنين ومؤمنات نحتاج الى هذا الاختبار في حياة الصلاة. لكي تكون صلاتنا في عمق أعماقها شركة مع الآب السماوي. وليكن معلوما عندنا اننا لن نبلغ هذه المرحلة إلا بعمل الروح القدس فينا. الروح القدس وحده ينيلنا هذا الامتياز، اذا أتحنا له الفرصة ليملأنا ويدخلنا في شركة صلواتنا. لنذكر قول الرسول بولس: «لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا» (رومية 8: 26). أجل ان الامتلاء بالروح القدس يسمو بنا الى الاتحاد بالمسيح، أو ما عبر عنه بطرس الشركة في طبيعة الله. حينئذ ندرك بالاختبار العملي معنى قول المسيح: في ذلك اليوم تطلبون اسمي. ونمنح امتياز السوءال الذي يأخذ والطلب الذي يجد والقرع الذي يفتح له. وهناك عامل آخر مهم جدا في موضوع الصلاة وهو الثبات في المسيح وفي كلام المسيح.

فقد قال له المجد: «إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُم» (يوحنا 15: 7). ونفهم من هذا القول الالهي ان العلاقة الحية بين الكلمة والصلاة هي أحد أركان الحياة الروحية. يا رب علمنا أن نصلي. وقبل أن نصلي علمنا ان نزيل العوائق والمعضلات من حياتنا، حتى تصير صلواتنا مقتدرة في فعلها. لنقل لإلهنا مع داود: «مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. أَيْضاً مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ٱحْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً، وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مزمور 19: 12-14).