العودة الى الصفحة السابقة

«هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: قِفُوا عَلَى ٱلطُّرُقِ وَٱنْظُرُوا، وَٱسْأَلُوا عَنِ ٱلسُّبُلِ ٱلْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ ٱلطَّرِيقُ ٱلصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (ارميا 6: 16)

هذه وصية إلهية عظمى إن عملنا بموجبها لا يطول وقوفنا على مفارق طرق الحياة المتشعبة. اذ سرعان ما يأتي الينا يسوع قائلا: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 14: 6). «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (متّى 11: 29 و30).

قال القديس أغسطينوس: لقد وجدت في كتب شيشرون وأفلاطون وأريسطو وغيرهم من الفلاسفة أقوالاً حكيمة كثيرة. ولكن لم أجد في كتاباتهم مثل هذه الكلمات التي تلفظ بها يسوع حين قال: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 28).

قال اشعياء النبي: «لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 4-6). ان هذه الايات البينات، التي وضعها الروح القدس في فم رجل الله تعلمنا:

أولا: ان المسيح رفع خطايانا فأراحنا روحيا

ثانيا: انه حمل أحزاننا فأراحنا عقليا

ثالثا: انه شفانا من أمراضنا الادبية فأراحنا نفسيا.

قال الرواقيون للمتألم: احتمل وامتنع عن التذمر فتجد راحة لنفسك. وقال بوذا: احتمل لانك مسؤول عن خطاياك فلا تضجر الناس وتربكهم بآلامك فتجد راحة.

وبكى كنفوشيوس على آلام الناس دون أن يجد لها حلاً. أما يسوع المسيح، الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة فقد أعطى كل الذين قبلوه براً وسلاماً وراحة. فتم القول الإلهي: «وعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً» (إشعياء 53: 11 و12). من أجل انه سكب الى الموت نفسه، وهو يحمل خطية كثيرين ويشفع في المذنبين. قيل ان سبعة من الربانيين اجتمعوا في الهيكل برئاسة الربي يهوذا للمناقشة في موضوع الراحة.

فقال أحدهم: ان الراحة في الثروة الطائلة التي تجمع بلا خطية. وقال الثاني: ان الراحة في الصيت الحسن ونوال المديح من جميع الناس. وقال الثالث: انها في الحصول على القوة لحكم البلاد حكماً عادلاً شريفاً. وقال الرابع: انها توجد فقط في البيت السعيد الذي يسوده الوئام. وقال الخامس: انه في شيخوخة رجل حاز الغنى والقوة والشهرة مع بنين وأحفاد. وقال السادس: كل هذا باطل ان لم يحفظ الإنسان كل طقوس شريعة موسى.

وأخيرا قال الربي يهوذا: لقد نطقتم جميعا بكلام الحكمة. ولكني أضيف الى أقوالكم شيئا واحدا هو أهمها الا وهو حفظ تقليد الشيوخ. حينئذ وقف ولد جميل الشعر كان في ردهة الهيكل ينصت الى حوارهم، فقال لهم: كلا، كلا، أيها الآباء الأجلاء ان الراحة الحقيقية عند من يحب الرب الهه من كل قلبه ومن كل فكره ومن كل قدرته ويحب قريبه كنفسه. هذه المحبة لله وللقريب أعظم من الثروة والصيت والبيت السعيد. وأهم بكثير من الشيخوخة المحاطة بالابناء والاحفاد. وأسمى من حفظ طقوس شريعة موسى وتقليد الشيوخ. فاندهش الربانيون الملقبون بأعمدة الحكمة السبعة وقالوا: حين يأتي مسيا ألعله يأتينا بتعاليم أفضل من هذه؟ صدق القول الالهي: انه من أفواه الاطفال يخرج لي تسبيحا.

جاء في احدى الترانيم: هنا مكان راحتي في قرب قلب الله. أخلص من خطيتي بقرب قلب الله. فطويى للمستريح في الله، لانه يعيش فوق الزوابع والعواصف التي تثيرها آلام هذا الدهر. طوباه لانه جعل الرب متكله، ولم يلتفت الى الغطاريس والمنحرفين بل جعل قوة محتماه في الله. انه ينصت انتظارا لصوت الله ويزعن انقيادا لارادة الله ويسكب قلبه تعبدا أمام الله. قال أحد الاتقياء: اني أحس بأن ارادة الله كوسادة لينة أسند اليها رأسي، فأجد راجة واطمئنانا وسرورا في كل الظروف لاني جعلت الرب متكلي. أجد راحة

أولا: راحة المصالحة مع الله بالتبرير كما هو مكتوب: فاذ قد تبررنا بالايمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح. ومن ميزات هذا التبرير الواجد السلام مع الله ان الحصول عليه لا يحتاج بذل أي جهد من قبل الانسان طالب الله. لان كل ما يلزم عمله في هذا السبيل قد تم حين قال يسوع: قد أكمل. وتبعا لذلك فان الخاطي الذي افتدى بالدم الكريم حين يقف في ظل الصليب يشعر بأنه صار مقبولاً لدى الله باستحقاق الدم الثمين. ويمكنه ان يردد كلمة الرسول: «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!» (رومية 8: 33 و34).

ثانيا: راحة الغلبة، فحين نذكر كل ما عمله يسوع لا نرى في الشيطان الا عددا مغلوبا مندحرا لا يمكنه ان يسلب المؤمن المفدي بدم العهد الأبدي راحته وسلامه. لأنه لا يستطيع ان يحس الحياة المستترة مع المسيح في الله! هكذا قال المسيح: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا 10: 27 و28). أجل ان الشيطان مغلوب قد غلبه المسيح وأعطى الغلبة لخاصته كما هو مكتوب: «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ ٱلْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤيا 12: 11).

ثالثا: راحة تسليم النفس لله، فحينما نسلم أنفسنا لله ونسكن قلوبنا قدامه تتركز حياتنا في حياته. وتنجذب بفعل محبته فتسير أفكارنا وفق مقاصده الصالحة المرضية الكاملة.

وحينئذ يطيب لنا أن نطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله ليشفع فينا. ويا لها من سعادة شاملة حين نسلم أمورنا له. عندئذ ننظر الى الصعوبات وكأنها مرسلة من قبله لإنهاض هممنا. وعندئذ يصبح الفشل غير وارد بالنسبة لنا، لاعتقادنا بأن التجارب التي نواجهها انما هي لامتحان ايماننا، الذي ينشئ صبرا. وقد قال الرسول يعقوب ان الصبر له عمل تام لكي نكون تامين وكاملين غير ناقصين في شيء. وقال بولس: «وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 8: 37-39). في هذه المرحلة تصبح الصلاة لنا دخولا الى قدس الاقداس لنجد نعمة عونا في حينه. وراحة في النفس وسلاما في القلب وهدؤا في الضمير.

رابعا: راحة المحبة. كلنا مررنا في أزمنة جهل، فيها انحرفت ميولنا وعملنا الشر قدام الله. ولكن ما أن ندع يسوع المصلوب المقام يدخل حياتنا حتى تتحول ميولنا عن شاتهاء البادل، والى طلب الحق. وحينئذ تمتلئ قلوبنا بمحبة الله والقريب بحيث لا تبقى هزيلة جافة بل تصير قوية مملؤة ثمارا روحية وأعمالا صالحة. فلا حرمان بعد لأن القلب في هذه المرحلة يجد رغباته كل رغباته في الله. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، قال صاحب الاعلان، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم الى ينابيع مياه حية. هكذا قال امام المرنمين: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي» (مزمور 23: 1 و2).

أيها الأحباء

ان أرضنا التي لعنت بسبب سقوط آدم وصارت تنبت شوكا وحسكا، ما زالت تئن وتتمخض معا: آلاما وأحزانا وأوجاعا من كل نوع. فالضمائر متعبة بالشر والقلوب مثقلة بالخطية والنفوس مشحونة بالهموم والعقول حائرة مرتبكة والاجساد منهكة مكددة. وفي غمرة هذه العوامل ترتفع الانات من الصدور طالبة الانقاذ والراحة. ولحسن الحظ ان المنقذ جاء، وأطلق صوته الداوي: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 28). التفتوا الي واخلصوا يا جميع أقاصي الارض. «أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. ٱسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ» (إشعياء 55: 3). وليس هذا فقط، بل انه بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا صعد الى السماء مبررا بقيامته كل الذين قبلوه. ثم أرسل المعزي الآخر الروح القدس الذي يجيد تعزيتنا.

ويذكرنا بمواعيد الرب الصالحة والأمينة فتطمئن قلوبنا وتتشدد عزائمنا أمام المحن. انه يرافقنا بنعمته ويزكي ايماننا بشركة آلامه ويثبت رجاءنا بقوة قيامته ويقوي محبتنا بحياته فينا. ان جميع هذه الامتيازات ميسورة لنا وهي تعطى بالروح القدس الذي يسكب محبة الله في قلوبنا. ولكن يجب ان لا ننسى ان انسكاب الروح المبارك كان وما زال مرتبطا بصعود الرب الى حيث كان أولا. فكما ان الشفيع الاوحد صعد الى السماء، هكذا نزل المعزي الى قلب الكنيسة. ليخلق فينا الايمان، الذي يطالب بنصيبنا في ميراث القديسين في النور. ميراث الراحة الذي أحرزه لنا المسيح بواسطة عمله الفدائي.

في الواقع انك لن تستطع الفصل بين هاتين الحقيقتين. وكل محاولة في هذا الصدد توقعك في الفشل وفي اليأس. لأنك ان كنت تحاول ارضاء الرب المخلص ببرك الذاتي، فلا بد ان تقصر في التجاوب مع رغبة الروح القدس في امتلاك حياتك. كذلك، ان كنت تتحدث دوما عن امتياز الامتلاء بالروح القدس، دون المخلص الذي جاء الروح القدس ليمجده، فانك تدفع بنفسك الى حالة خاصة من الغرور حيث يتمجد نموك. ليتك تتأمل بعمق في طلبة الرسول بولس من أجل الأفسسيين حين قال: «بِسَبَبِ هٰذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ. لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ، لِيَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ بِٱلإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ. وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللهِ» (أفسس 3: 14-19).