العودة الى الصفحة السابقة

Table of Contents

عمّانوئيل

عمّانوئيل

«ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (اشعياء 7: 14 - أ)

أيام قليلة وتقرع أجراس الدنيا احتفاء بذكرى تجسد الإله باسم عمانوئيل، ومعنى هذا ان الله صار معنا، وان معرفة مجد الله تُرى في وجه يسوع المسيح المتجسد. وكان هدف الله من التجسد إعلان مجده بطريقة أقرب لحواسنا. قال يوحنا الانجيلي: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 1 و14). هذه اذن رسالة التجسد ان الله أتى الى عالمنا في يسوع المسيح وكلم البشر، فصار يسوع كلمة الله وفكر الله مسموعا عن الناس.

قال الشاعر الإرلندي بيتس: ان البحث عن الله ينتهي بالتأمل في شخص يسوع المسيح، لأننا نرى فيه صورة الله غير المنظور. وهو يعطي نفسه للأنقياء القلب فيعاينون الله في وجهه. في كتاباتهم الموحى بها، أشار رجال الله القديسون الى سر الهي اشتهت الملائكة ان تطلع عليه. وهذا السر بقي مكتوماً خلال أحقاب ما قبل التجسد الى أن أعلن في ملء الزمان ان المسيح فينا رجاء المجد. وان الخلائق الساقطة ستجد في تجسد المسيح كنز معرفة الخلاص. وانها في صليب المسيح كنز الفرح والتسبيح.

منذ القديم رأى الناس في النور المنبعث من مذود بيت لحم مجد التواضع. وتعلموا من هناك انه ليس حب أعظم من هذا ان يضع أحد نفسه عن أحبائه. والحق انه حين نتأمل في شخص يسوع من خلال الإنجيل، نرى انه يعكس مجد الله في التواضع بحيث نشعر بقربه منا.

قال له المجد: «الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ» (يوحنا 14: 10). فعين فادينا المبارك تفيض علينا حياة الآب ونعمة فوق نعمة. وعن طريق فادينا المبارك تعود هذه الى الآب وتسبيحة فوق تسبيحة.

يخبرنا الكتاب المقدس ان الرب أعلن ذاته لموسى على جبل حوريب وقال له: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 14). أما بالنسبة لنا فقد شاء أهيه الذي أهيه نفسه أن يأتي الينا ليكشف لنا سر التقوى بظهوره في الجسد. فصارت تسبيحة المجد في بولس: عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد. وكانت اعلاناته لنا: «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ» (يوحنا 10: 11). «أنا هو خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 33) . «أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9). «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6). «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12). «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11: 25). أنا هو ابن الله وقد صرت ابن الانسان، وأتيت الى العالم لكي أخدم ولأبذل نفسي عن كثيرين.

في الواقع كما ان رئيس الكهنة في العهد القديم كان يخلع حلته الكهنوتية الفاخرة ليخدم في ثوب بسيط. هكذا يسوع فادينا أخلى نفسه وأخذ صورة خادم بسيط. وقدم نفسه ذبيحة للتكفير عن خطايانا، فكان لنا الكاهن وكان لنا الذبيحة. وبذلك تم القول النبوي: «وهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينا» (إشعياء 53: 5). نعم هكذا عومل الرب المتجسد بالمعاملة القاسية التي كنا نستحقها، لكي نعامل نحن بالمعاملة السعيدة التي كان هو يستحقها. هكذا دِين لأجل خطايانا التي لم يشترك فيها، لكي نتبرر ببره الذي نشترك فيه. هكذا قاسى الآلام المريرة التي كانت معدة لنا، لكي ننال نحن الحياة التي كانت له في ميراث النور.

ويا لها من نعمة فاقت كل عقل وتجاوزت كل فهم، ان الله لكي يؤكد لنا عهد سلامه بصورة لا تنقص أعطانا ابنه الوحيد فارتبط معنا برباط النسب، الذي صيرنا أولاد الله واخوة المسيح. هذا الامتياز العجيب الذي أعطي لإنسان العهد الجديد تصوره زكريا النبي فقال: ما أجوده! ما أجمله! وكذلكم يوحنا الانجيلي، فمع انه من أبناء عهد النعمة إلا انه اندهش من الاعلان، فقال: «اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ!» (1يوحنا 3: 1).

لقد ظل اليهود أحقابا طويلة من الزمن ينتظرون مجيء المخلص. وقد ركزوا على هذا المجيء أبهج آمالهم وأعظم انتظاراتهم. في تسبيحاتهم ونبواتهم وفي طقوس هيكلهم وفي عباداتهم العائلية كانوا يقدسون اسمه. ومع ذلك فلما جاء في ملء الزمان لم يقبلوه كقدوس، بل امتهنوه وحقروه. وكان في نظرهم تلك الصورة التي رسمها اشعياء النبي حين قال: «كَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ» (إشعياء 53: 2 و3). وانه لعجيب أمرهم! انه لمذهل حقا! لان الله كان قد دعاهم ليعلنوا الرموز والنبوات التي تشير الى المخلص الاتي باسم الرب. وكان الله يريدهم ان يكونوا ينابيع خلاص للعالم كما كان ابراهيم في ارض غربته، وكما كان يوسف في مصر وكما كان دانيال في بابل.

ولكن أبناء هذا الشعب الذين وصفهم بولس بقساة الرقاب ركزوا كل آمالهم وانتظاراتهم في الماديات التي في أرض كنعان والتي تفيض لبنا وعسلا. ومنذ ان دخلوا هذه الكنعان حادوا عن وصايا الله، وعبثا أنذرهم الله بأنبيائه وعبثا ضربهم بالحروب مع شعوب الارض. فبعد كل اصلاح كانو يوغلون في الارتداد عن الله. والمؤسف جدا هو ان اليهود اذ تركوا الله القدوس غاب عنهم مغزى عبادتهم الطقسية التي تشير رموزها الى المسيح. فحاول الكهنة ملء الفراغ الناشئ بمضاعفة مطالب الناموس. ولكن بقدر ما زادوا من الصرامة قلت محبتهم لله. وراحوا يقيسون قداسة حياتهم بنسبة برهم الذاتي، الأمر الذي قادهم الى الكبرياء واحتقار الاخرين كما أخبرنا لوقا الانجيلي. ومع كثرة الوصايا التي وضعها الربيون انصرفوا عن حفظ الناموس. ولهذا وبخهم المسيح قائلا: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ» (متّى 23: 23).

نفهم انهم بسبب هذه الأمور لم يفهموا مهمة المسيا على حقيقتها. فبدلاً من أن يطلبوا الفداء من الخطية طلبوا التحرر من نير الرومان. فتصوروا المسيا قائداً فاتحا آتيا ليسحق رومية الظالمة، ويرفع من شأن الشعب اليهودي ويجعل سلطانه شاملا. هذه التصورات التي لا شك انها من ابتداع الشيطان مهدت لرفض المسيا، وبالتالي لصلبه كمجرم أثيم. صحيح انهم ما انفكوا عن درس النبوات ولكنهم كانوا يدرسون بلا فهم روحي. ونجم عن ذلك اغفال النبوات التي تشير الى اتضاع المسيح في مجيئه الأول. وبسبب تعصبهم العنصري فسروا النبوات بما يتفق مع رغائبهم القومية.

أيها الأحباء

في هذه الأيام يعيش المسيحيون في جو المجيء أو ما يسميه إخواننا في الغرب بالأدفنت وفي هذه الفترة يتعبد المؤمنون ويتأملون في تنازل رب المجد واتخاذه جسداً بشرياً في بيئة وضيعة جداً. لكنه شاء أن يحجب مجده حتى لا يستدعي جلاله اهتمام الناس، وهكذا يجتذب اليه قلوبهم بجمال الوداعة والتواضع. فيقتادهم الى خلاص الله بالفداء الذي أكمله. وقبل صعوده الى مجده الأسمى وعد بأنه سوف يعود ثانية لفداء أجسادنا. وبانتظار ذلك أمر بالسهر والاستعداد.

قال: «لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً، وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ ٱلْعُرْس» (لوقا 12: 35 و36). وقد علمنا في مثل العذارى ان هناك أموراً لا يمكن الحصول عليها في اللحظة الأخيرة. لأنه كما ان العذارى الجاهلات لم يستطعن اقتراض الزيت من العذارى الحكيمات، هكذا في العلاقة مع الله لا يستطيع أحد أن يستعير هذه العلاقة بل ينبغي ان يمتلكها الإنسان شخصياً. والحق أن هذا المثل كان نبعاً فياضاً لعظات كثيرة لشرح مأساة الفرصة الضائعة ويا لها من مأساة تثير الدموع! ان لسان حال الأدفنت يقول لنا بالمناسبة السعيدة: يا جميع المنتظرين الرب يسوع اذكروا انكم تنتظرون الله الآن. انظروا ان تعملوا هذا كأناس ينتظرون الرب من السماء. تأكدوا ان الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم في وجه يسوع المسيح من أقوى روابط اتحاد المؤمنين التي أعطيت في كل أحقاب التاريخ. وتأكدوا ان الرب آت ليتمجد في قديسيه الذين افتداهم وهو سيأخذهم الى منازل الآب كما سبق ووعد قائلا: «حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يوحنا 14: 3).

وأخيرا يا أخي محبوب الرب، اذا أردت ان تعرف كيف تنتظر فاديك عليك ان تعيش منذ الآن في انتظار روحي لله. لأن الله وحده قادر أن يهبك الحياة الروحية العميقة التي تليق بمؤمن ينتظر الرب، ويقول مع العروس: «آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ» (رؤيا 22: 20):