العودة الى الصفحة السابقة

«هُوَذَا عَبْدِي ٱلَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي ٱلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي» (اشعياء 42: 1)

حين اتزر يسوع بمنشفة وراح يغسل أرجل التلاميذ كان منسجما تماما مع مهمته التي عبر عنها بقوله «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِين» (مرقس 10: 45). ولا غرابة بعد ذلك ان يسود الكل لانه خدم الكل. ولا غرابة ان يرتفع فوق الكل، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة فوق جميع السموات لانه الاكثر اتضاعا.

وقد أجاد الرسول بولس في وصف اتضاعه ورفعته حين قال: «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ. لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلآب» (فيلبي 2: 6-11).

في صلاته الثانية لاجل اهل أفسس طلب الرسول بولس ان يحل المسيح بالايمان في قلوبهم لكي يؤصلهم ويؤسسهم في المحبة. ويبدو ان الرسول الكريم كان آنئذ يستعرض في خاطره صورة يسوع بين تلاميذه كالذي بالمحبة يخدم. والذي بالمحبة اعتزم ان يخدم مختاريه حين يجلسون على مائدته في ملكوت الله. ولعله بوحي من هذه الصورة ليسوع الخادم بالمحبة كتب الرسول الكريم وصيته للمؤمنين: «بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. لأَنَّ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ» (غلاطية 5: 13 و14).

أيها الاخوة

ان الصفات التي دعينا اليوم لنراها في يسوع الذي صار كالذي يخدم هي:

1 - وداعة الهية، تتراءى لنا في رعاية رب المجد للناس والاهتمام بهم بسد كل اعوازهم. «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي»، قال داود في المزمور 23. وقال في المزمور 103: «بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. ٱلَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ.... ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ... ٱلَّذِي يُشْبِعُ بِٱلْخَيْرِ عُمْرَكِ». وقال في المزمور 104: «بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ... اَلْمُفَجِّرُ عُيُوناً فِي ٱلأَوْدِيَةِ، ٱلْمُنْبِتُ عُشْباً لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ ٱلإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ ٱلأَرْضِ».

وقال الرب في حزقيال 34: «أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ. وَأَطْلُبُ ٱلضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ ٱلْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ ٱلْكَسِيرَ، وَأَعْصِبُ ٱلْجَرِيحَ». وجاء في اشعياء 40: «هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ. كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ، وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ».

وجاء في الانجيل بحسب لوقا انه يفتش عن خروفه الضال، واذا وجده يضعه على منكبيه فرحا. كل هذه الاقوال تؤكد لنا ان الهنا دائم العمل في عالمنا، وقد أوقف عنايته لخدمة الانسان. قال الرب يسوع: ربي يعمل حتى الان وانا أعمل. فما أروع هذه العبارة التي ترينا الله نفسه في الخليقة خادما. على ان أعمال القدير تجري كلها في وداعة الصمت، فلا جلبة ولا ضوضاء. فهو يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين. أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم الى الابد. وهو يعطي الجميع بسخاء ولا يعير. هكذا أيضا أعماله بيسوع، فقد أوصى الذين شفاهم من الامراض والعاهات ان لا يذيعوا صيته. فهل تتصرف أنت هكذا؟ أو انك تعلن عن أعمال الرحمة التي كنت تصنعها لكي تتمجد من الناس. كثيرون فعلوا هذا معلنين بر أنفسهم ليصبحوا على ألسنة الناس بالمديح.

هكذا فعل الصمدي المثري اللبناني حين تبرع بمليوني ليرة للجمعيات الخيرية الاسلامية، وبالمقابل قبل ان تكتب الصحف مشيرة الى أريحيته، فنال مديحا من الناس. ما أبعد هذا التصرف عن روح الوداعة الذي حرص الرب يسوع ان تتعلمها منه. انه خروج على مبدأ المحبة التي لا تطلب ما لنفسها ومخالفة صريحة لناموس المسيح القائل: «فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ» (متّى 6: 2).

قال كرمويل لقسيسه الخاص: يا مستر هاو لقد طلبت امتيازات لكل واحد منا ما عدا نفسك، فمتى يأتي دورك؟ فقال ان دوري يا سيدي هو دائما عندما اتمكن من خدمة الاخرين.

2 - تواضع الهي، قال يسوع: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (متّى 11: 29). في الواقع ان تجسد الرب، الذي هو أعظم وأروع أعماله الالهية، تمت تحت سمع وبصر جماعة من الرعاة المساكين الذين كانوا يحرسون قطعانهم. وان موكب الشرف لعريس الانجيل تألف من عشر عذارى مجهولات. وهل من تواضع كهذا ان يشاركنا رب المجد في اللحم والدم، ولا يستحي ان يدعونا اخوة؟

تذكروا ان القدوس الحق حين هبط الى دنيانا تخطى قصور الملوك، واختار كهفا يستعمل مربطا للماشية، وتجسد تحت سقفه طفلا مقمطا ومضجعا في مذود. وهذا الذي دعي رئيس ملوك الارض، لما شب رفض التاج والصولجان والعرش. مفضلا بالاحرى اكليل الشوك والصليب والقصبة المرضوضة، لكي يرفع خطايانا. وحين عزم على احداث أعظم انقلاب روحي واجتماعي في التاريخ، اتخذ أعوانا من صيادي السمك العاميين. وفي دائرة اعلانات السماء رفض العلماء والفهماء، وأعلن أعمق الاسرار للاطفال. وفي المجتمع أبى مجالسة الكتبة والفريسيين الابرار في عين أنفسهم. مفضلا بالحري الجلوس مع الخطاة والعشارين والمنبوذين والمطرودين، لكي يتحسس آلامهم ويكتشف أسرار أحزانهم ويمسح الدمعة من أعينهم. وباختصار فان الرب في أيام جسده وجه عنايته خاصة الى ما يسميه الكتاب المقدس القصبة المرضوضة والفتيلة الخامدة أمثال المجدلية والسامرية والمرأة التي امسكت في زنا والخاطئة التي جثت عند قدميه في بيت سمعان الفريسي وزكا العشار وبرتيماوس الاعمى وغيرهم من البؤساء.

تأملوا القصبة المرضوضة، انها مهملة ملقاة على الأرض! ومن يعتد بقصبة مرضوضة هشمتها أقدام المارة من الناس والدواب. انها تمثل المساكين الذين كسرت وسحقت قلوبهم وارواحهم. ولكن طوباهم لانه مكتوب: «ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ» (مزمور 51: 17). تأملوا الفتيلة الخامدة انها بغير لهيب، والشرارة التي فيها لا تستطيع ارسال خيط من النور. ولكن الرب لا يطفئها لانها تمثل الجياع والعطاش الى البر، الذين سيشبعهم الله. وفقا لقوله: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متّى 5: 6). وقد تمثل الفتيلة الخامدة فتور المحبة ولكن أياً منا لم تمر برهة فتور في المحبة؟

وقد تمثل المسيحي الذي بقي في سطحية المعرفة فلم يدرك أبعاد محبة المسيح. ولهذا لم يصل في المسيح الى كل ملء الله، فصار فتيلة خامدة. ولكن السيد الرب لن يطفئ القوة اليسيرة التي بقيت له، بل سيرسل اليها نسمة من روحه القدسي ليوقد جذوتها. فتصبح كجذوة حب بطرس لسيده التي خبت هنيهة في صدره. الا أنها عند صياح الديك، ما أن تماست بحرارة نظرة السيد الذي صلى لاجله لكي لا يفنى ايمانه، حتى التهبت حماسا وغيرة واندفاعا في عمل الرب. ولم تلبث ان صارت واسطة لإضرام النيران في قلوب الآلاف من الأنفس.

3 - مثابرة الهية، في بدء تكوين العالم كانت الارض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، ولكن روح الرب الذي كان يرف على وجه المياه، لم يلبث ان جدد وجه الارض. فصارت الارض موضوعا لاستحسان الرب الاله.. فقدة جاء في التكوين ان الله رأى كل شيء انه حسن، هكذا الحالة في معاملة الله للانسان فقد كان الانسان خربا وخاليا من البر. حتى في الاجيال التي أعقبت الفداء بربنا يسوع المسيح. وقد شهد العالم فترات من الفوضى الخلقية في كل مجتمع. فنجم عن ذلك أعمال همجية فجرت ينابيع من العرق والدموع والدم. ولكن روح الذي تظاهر يوم الخمسين ما انفك يعمل في العالم، مبكتا على خطية وعلى بر وعلى دينونة. وكما جدد وجه الارض في البدء وأعطاها منظرا رائعا هكذا مسح الكنيسة وقدمها للمسيح عروسا لا دنس فيها ولا غضن. ولكم بعث الروح القدس من أموات في الذنوب والخطايا واقامهم مع المسيح، وأحياهم معه خلائق جديدة سيرتها في السمويات.

هل عرفت الروح القدس؟ هل عرفتِ الروح القدس؟ اطلبه، اطلبيه، لنطلبه جميعا بروح الطاعة فيكون لنا، لانه ليس بكيل يعطي الله الروح القدس للذين يطيعونه. في الاصحاح 42 من سفر اشعياء، تقرأ هذه العبارات: «امْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ». فيا له من وعد يتضمن تعاون الروح القدس مع كل مؤمن يطيعه. كما هو مكتوب: وكذلك الروح يعين ضعفاتنا. لا تخف أنا اعينك يقول الرب فاديك. أجل ان الرب يعين الصديقين وفي العون قوة، وبالقوة تنطلق الشهادة. وحين نؤدي الشهادة يقول الروح القدس آمين، مؤيدا شهادتنا واضعا الختم على بنوتنا. الروح يشهد لأرواحنا اننا أولاد الله، قال الرسول. ولا يتوقف عمل الروح القدس عند الشهادة لبنوتنا بل انه يمدنا بقوة لا تقهر. وفقا لقول الرب: «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال 1: 8).

ومما يدعو الى الغبطة ان تأتي هذه القوة لمؤمن خاتمة لنعمة ربنا يسوع ومحبة الاب وشركة الروح القدس. وفقا لقول الرسول نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. هذا هو المستوى الذي ترفعنا اليه معرفة محبة المسيح الفائقة والى كل ملء الله بشرط تسليم الحياة كليا للمسيح.

كانت فرنسيس ردلي تصلي في كل يوم حتى يملأها الرب بروحه القدوس. وذات يوم جاءتها نبذة من احدى صديقاتها بعنوان »الكل ليسوع» فقرأتها باهتمام وأدركت ان امتياز الملء لا يعطى الا بعد تسليم كل شيء ليسوع. فجثت على ركبتيها وسلمت كل شيء لفاديها وعرفت قول الكتاب ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية. ودشنت عهد تكريسها الكامل بنظم الترنيمة الحلوة التي مطلعها:

«احفظ حياتي ليكن تكريسها يا رب لك»

قال الصادهو سندر سنغ: الفحم أسود ولا يمكن تبييض قطعة منه ولو غسلناه بماية رطل من الصابون. ولكن حين نضعها في النار تشتعل وتضيء ولا يعود أحد يرى سوادها. هكذا حين نعمد بالروح القدس وبنار ننير العالم ويتم فينا قول المسيح أنتم نور العالم. قال أحدهم: ان المسيح دعانا نورا للعالم، وملحا للأرض. ولكن لا نور بدون احتراق ولا نفع للملح ان لم يذب.