العودة الى الصفحة السابقة
ميلاديات

ميلاديات

جون نور


حملتني أجنحة التأمل، وطارت بي إلى بيت لحم...

وهناك عند المذود الذي ولد فيه المسيح وقفت...

وقبل أن تقع عيناي على الوليد العجيب، التقيت هناك بمجموعة من الناس والشخصيات...

لقد كان هناك الرعاة...

كانوا هناك بملابسهم التي تفوح منها رائحة التراب والعرق، وكانوا يتحدثون بانبهار ودهشة عن رؤيا الملائكة وأنشودة جوقة الترنيم السماوية «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14)... كانوا مندهشين لرؤية الملائكة...

لكن دهشتهم كانت أكثر، لأن الملائكة ظهرت لهم هم... نعم. هم وحدهم دون سائر الناس... وتحدثت الملائكة اليهم. وأنشدت تسابيحها في آذانهم... وحدثتهم عن مخلص هو المسيح الرب...

وأين يجدون هذا المخلص؟ يا للعجب!! في مذود يجدونه؟ نعم، مذود... إنهم يعرفون معنى المذود، لأنهم رعاة... يرون المذود كل يوم... تأكل فيه صغار أغنامهم، وتستريح عنده البهائم... إنه مكان مألوف لديهم... وهناك سيجدون المخلص... المسيح الرب...

إذا فالله رضى أن يتحدث إليهم، وأن يجعل مسيحه قريباً منهم... في أكثر الأماكن الفة لهم...

ولقد شعرت بمقدار البهجة التي غمرت قلوب الرعاة، وهم يشعرون لأول مرة بأن الله قريب جداً منهم، بصورة لم يكونوا يدركونها من قبل...

ويا لها من سعادة تغمر النفس والحياة... أن تشعر بقرب الله، منك، كما شعر هؤلاء الرعاة...

وهناك عند المذود أدركت سر شقاء كثيرين من الناس... أنهم يحسون ببعد الله عنهم... يبحثون عنه في مجلدات من الكتب، أو في حوار فلسفي، أو في جدل منطقي، أو في تأمل صوفي...

بينما هو أقرب إليهم مما يتصورون... هو في نسمة الهواء التي يتنفسونها كل صباح، وفي بسمة الشمس عند شروقها، وفي لقمة الخبز التي يأكلونها، وفي نبضة القلوب الساكنة بين صدورهم...

إنه يلتقي بهم وهم لا يدرون...

وعندما يتبين الإنسان حقيقة قرب الله منه، يشعر بالسعادة الغامرة...

وهناك عند المذود رأيت المجوس...

أما المجوس فقد سافروا زهاء السنتين لكي يصلوا إلى ذلك المكان... سنتين وسط القفار والجبال والرمال والأخطار... يا لها من رحلة شاقة مكلفة...

لقد كنت أظن أن ما قدموه للوليد من هدايا: ذهباً ولباناً ومراً كان شيئاً ثميناً غالياً... وحقاً كان كذلك... لكن كان أغلى منه المجهود والمشاق والنفقات التي تكبدوها في تلك الرحلة العجيبة، من بلاد الشرق الغامضة، إلى بيت لحم...

ما كان أسعدهم عندما رأوا وليد بيت لحم وفتحوا له كنوزهم، وقدموا له هداياهم...

لقد زال عنهم عناء الرحلة الشاقة، وهم يسجدون أمام وليد بيت لحم...

وهنا رأيت نوعاً آخر من السعادة... سعادة تحقيق الأمل بعد طول جهاد، سعادة الوصول إلى الهدف بعد مشقة السعي، وطول الانتظار...

وهنا أدركت سر شقاء كثيرين من الناس.. نهم يرغبون... لكنهم لا يعملون...

قلوبهم مليئة بالأمل... لكن حياتهم تفتقر إلى العمل... الرغبة تملأ نفوسهم... لكن ليس لديهم صبر ليصلوا إلى تحقيق الرغبة، ولا مثابرة لينالوا النجاح...

وهناك رأيت مريم العذراء...

وكم كنت أشتاق أن أراها... فما أكثر ما سمعت عنها. وما أكثر ما فكرت فيها...

لقد كنت أريد أن أرى تلك الفتاة التي اختارها الله دون نساء الدنيا بأسرها، لكي تحمل في بطنها الجسد العجيب للمسيح المتأنس..

كيف يكون بهاؤها... وما مقدار سموها ورفعتها...

ولدهشتي، وجدتها فتاة بسيطة هادئة متواضعة هي أشبه بفتاة ريفية.

وعرفت هنا سر اختيار مريم العذارء لتكون أماً ليسوع... كان تواضعها هو السبب... لقد كانت مريم آخر فتاة تتصور أن الرب سيعمل معها هذا الأمر العجيب... لذلك اختارها الله.. ولذلك غمرتها السعادة.

وهنا عرفت نوعاً آخر من أنواع السعادة... هي سعادة الشعور بالشكر الفياض لأجل بركات تشعر أنها لا تستحقها... أو بتعبير آخر سعادة التواضع والامتنان...

وهنا أدركت لماذا يشقى بعض الناس في هذه الحياة... ذلك لأنهم يتصورون أنفسهم شيئاً مذكوراً، ويظنون أنهم أهل لخير ينالوه، وأنهم أصلح الناس لمنصب يتطلعون إليه ولكنهم لم يصلوا إليه... لذلك يعيشون على الدوام في تذمر وبكاء... وشكوى وشقاء..

أما من يشعرون بالتواضع وعدم الاستحقاق... فهؤلاء هم الذين يحسون بالفضل عند أي نعمة يتلقونها، فتمتلئ حياتهم شكراً وسعادة... هي سعادة التواضع والامتنان...

وبينما أنا أفكر في هذه الأنواع من السعادة، إذا بنور غامر يضيء أمام عيني، عندما وجدت أمامي أروع لقاء وأمجده عند المذود...

فهناك عند المذود وجدت يسوع

عند ذاك وجدت نفسي مأخوذاً بجماله، منتشياً بلقياه، ساجداً أمامه.

حقاً... لقد عرفت الآن صدق النبوة التي أشارت إليه وقالت، «أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ» (مزمور 45: 2).

تمنيت لو أنني عشت الدهر كله ساجداً عند قدميه، مصلياً ومترنماً بين يديه...

لكن صوته الناطق بالحكمة ناداني أن أنهض، فالعبادة وحدها لا تملأ النفس بالبركة ما لم يصحبها عمل وجهاد...

وليس كافياً أن أبقى متأملاً ذلك الجمال السماوي، ما لم ينتقل هذا الجمال من المسيح إلى المسيحيين... جمالاً في خصالهم وسلوكهم وتصرفهم...

فلنترك الآن المذود في بيت لحم.

لنعود إلى عالم اليوم، لنراه يفتقر إلى السلام الحق، والخير والجمال...

أليس هذا دليلاً على مقدار ما وصل إليه عالمنا من بغى وعدوان...

لذلك ما أحوجنا اليوم إلى دقات أجراس الميلاد تدق في قلوبنا، أن نتظهر من خطايانا وشرورنا، وأن نقوم لنزيل الشر والظلم، ولنبذر بذار الحب والخير والصفاء...

فليكن قلبي هو المذود الذي يتربع عليه يسوع، عند ذلك يرى الناس جماله في حياتي، ويسمع الناس كلماته من فمي، ويشعر الناس بحبه من خلال حناني...

وليكن عيد الميلاد لنا، لقاء للقلوب المتصافية، وللحياة المتصالحة، وللأقدام الساعية نحو السلام...

فهذا هو عيد الميلاد حقاً.