العودة الى الصفحة السابقة
في عيد الميلاد المجيد

في عيد الميلاد المجيد

جون نور


لقد افتقدنا مخلصنا من العلى. من مشرق المشارق.. فنحن الذين في الظلمة والظلال. قد وجدنا الحق، لأن المسيح قد ولد من العذراء.

لقد ولد المسيح في صميم مأساة الدنيا. لا في عالم من الرخاء ورغد العيش. بل في برد وعراء وإجحاف، في ظلم هذا العالم في ظل طاغية جزار. وأثار مولده الحسد، وبلغ الحقد عليه مبلغ الصليب. وأنه وضع في المذود على الدماء، دماء جسده والمعذبين. ولا يريد صاحب العيد أن نغض الطرف عن ما هو حولنا، عن تمزق البشرية وأن نساهم في صنع السلام والمحبة في الأرض. فالسلام هو رسالة الله للبشرية جمعاء. حيث يقول الإنجيل المقدس «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (متّى 5: 9) فالسلام يعطيه المخلص يسوع للنازفين العطشى إلى الرضا السالكين وحدهم طريق المجد، السلام الذي أنشدته الملائكة ليحل على أهل السلام الذين يعلون الحق ويزهق الباطل بحضرتهم على تلك القلة المخلصة التي تقبل في الأرض انحناء السماء.

وتشهد علينا حتى النهاية، شهادتنا أننا رماد ونور. رماد مدعو أن يكون وهاجاً. والتوهج بالضبط هو أن نعكس ضوء المسيح الآتي بصورة عبد. وبهذا الانسحاق مارس الله سيادته على العالم، ولا سبيل سوى هذه المسكنة إلى الرفعة وهذا الاتضاع إلى الكبرياء، وكانت المأساة أن الإنسان ظل غير فهيم. فالدعوة تلح عليك بسلوك هذا الدرب بالتماس صعوده في عمل الخير في ظل محبة الله للإنسان. ولكن النداء يبقى بلا صدى. والإنسانية لا تعطي الله قلبها كأن الله عدو لها. ولذا يلقانا الميلاد في مشهد خلاص. وفي مشهد الإثم. الله يبارك والإنسان يمعن والبشرية في غيبوبة طويلة.

وكان الذكرى دائماً مأساة، إنسان يدرك وإله لا يحب لأن الله لا يحب الإثم. كأنه توتر لا يلين بين لطف وعقوق. ومع ذلك الخاشعون يصبرون ويرجون. وصلاتهم أن لا يكونوا هم محزني الله وأن يعرف العالم أن جماله الوحيد يسكنه مسحاء.

يولدون كل يوم بحنان الله وغفرانه. فالمسألة لم تبق تذكر مولد يسوع في زمان الناس. فوليد هذا العيد ليس ثمرة زرع بشر لكنه كلمة الله هبط من العلاء ، ومبادئ ملكوته وتعاليمه ليست مشتقة من شرائع الأرض لكنها قبس من وحي السماء .نزل على هذه الدنيا فقلبها رأساً على عقب. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين ، ورسالته التي نشرها على الأرض، هي سهام محبة مضحية سرت في القلوب كما يسري في الوجود الضياء، فسلامه غريب عن معجم لغة البشر، فلا عجب إذا كان العالم لم يتعلم إلى اليوم معنى سلامه، لأن لسان الأرض لا يجيد النطق بلغة السماء ولم يتعلم البشر أيضاً معنى ميلاده لأن هذا هو الدرس الرئيسي الذي يلقيه علينا الميلاد العجيب لأن الله حين أراد أن يكلمنا نحن البشر في الأيام الأخيرة لم يكلمنا بلغة الطوفان كما تكلم في عصر نوح ولم يخاطبنا بلغة النار المحرقة كما خاطب سدوم وعمورة ولا بنار غير محرقة كما خاطب موسى في العليقة. بل تمثل لنا بشراً سوياً فأتانا طفلاً وديعاً رأيناه في المهد صبياً فكان عنا وعن متاعنا غنياً فهيأ له الروح القدس جسداً علوياً. لأن أمه العذراء الطهور حملته من غير أن يمسسها بشر .وفي يوم ميلاده لم يكن له بيت بين البشر. فولد في مذود محتقر. فهو عجيب في ميلاده الإعجازي ، عجيب في شخصه لأنه معجزة الأجيال والدهور فقد سما بطبيعته الإلهية فوق السماوات، ولامس بطبيعته الإنسانية هدب الأرض. عجيب في رسالته فقد كشف أسرارها للأطفال وأخفاها عن الحكماء . عجيب في موته فقد مات كالأشرار وهو القدوس البار.

فما أحبه وما أعجبه ما أعذبه وما أرهبه. لقد تجسد فصار كواحد منا. نزل إلينا ليرفعنا إليه، وكلما سمونا نحن إليه ارتفع هو فوقنا فهو القيامة والحياة.

هذا هو المسيح الذي نحتفل بذكرى عيد ميلاده، أعلن لنا بحياته ومعجزاته ومماته وقيامته أن الله محبة. فليس عجباً إذاً أن يقال أن المحبة ولدت يوم ميلاد المسيح لأنه أعلن لنا الحب الإلهي في أسمى مراتبه. إذ أرانا بحياته وتعاليمه كيف يحب الإنسان أخيه الإنسان ويحب مضطهديه ويبارك لاعنيه ويحسن إلى مبغضيه. مبارك اسمه إلى الأبد

ففي المسيح صرنا في تلك المصالحة الكونية التي سماها الإنجيل السلام، فيا مخلصي لا تسمرنا على الحسرة والندم. بل حولنا إلى وجهك الغفور فنكون إذا تأملناه محفوظين من كل شر. اللهم لا تدع ضعفنا مقيداً بالإثم بل اسند القلب وامسح الدمع من العيون، واغمرنا برحمتك لنتوب إليك بفرح. وجمل ديارنا المقدسة بالسلام ليعيد إلى مغارة بيت لحم ومدينتها وجهها الحقيقي، حتى نقدر أن نرتل بحق وفرح تلك الترنيمة الملائكية الخالدة «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14) واجعل أن يكون هذا العيد جالباً علينا الحرية والعدل والسلام لكي نقول بكل صدق أمامك المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وبنا نحن أولادك المسرة.