العودة الى الصفحة السابقة
المسيحية بين الجوع والشبع

المسيحية بين الجوع والشبع

جون نور


«أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ» (فيلبي 12:4).

ليست الحياة المسيحية خاملة كما يظن البعض أو جامدة. بل هي حياة تنمو حياة نتعلم فيها كل يوم على يد المعلم العظيم الذي قال: «تَعَلَّمُوا مِنِّي» (متّى 11: 29).

فنحن نتعلم من الله مباشرة، ونتعلم من الطبيعة ذاتها «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1) يقول الكتاب المقدس: «فَاسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ. أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ، وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ» (أيوب 12: 7 و8).

واليوم يتحدث إلينا الرسول بولس عن درسين تعلمهما وأمتحن فيهما ونجح بدرجة شرف وفي منهاج الحياة المسيحية دروس كثيرة لا تنتهي منها. إلا بانتهاء الحياة، والدرسان اللذان أمامنا هما: الشبع والجوع. وبحسب الظاهر أن الدرس الثاني أصعب من الأول لذا نبدأ به لنعرف كيف جازه بولس بنجاح وكيف نجتازه نحن.

أولاً: درس الجوع:

يقول بولس: تدربت أن أجوع. وسفر الجوع سفر جاف الصفحات، وأكثرنا يرغب لو أعفينا من دراسته على أنه سفر غني وعميق ومليء بالكنوز، رغم أن كثيرون فشلوا فيه. عيسو لما جاع باع باكوريته بطبق عدس.

داود لما جاع ارتكب خطية الكذب لكن رغم أن كثيرون فشلوا فيه إلا أن كثيرون نجحوا فيه أيضاً.

يسوع لما جاع رد سهم الشيطان بقوله: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (متّى 4: 4).

الابن الضال: لما جاع قال: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي» (لوقا 15: 18). وبولس: لما جاع قال: تدربت أن أجوع.

على أن درس الجوع ليس وقفاً على شخص واحد ففي الميدان متسع للجميع. ولقد قام نجاح بولس على تمرنه على أشياء عديدة، خرج من جوعه وهو يحملها معه، وأهم هذه الأمور أنه وقت الجوع:

1 - لم يفقد تعزيته في الرب:

لقد استطاع بولس أن يبقي تعزيته بالرغم من الجوع. رغم أن الجوع يرسم كآبة على الوجه. فقد تدرب أن يجوع دون أن يفقد نوره، فهو في تعزية دائمة لقد قطع القناة التي تربط بين معدته ونفسه، ووصل نفسه بقلبه. فنوره يفيض من قلبه وليس من معدته. إن روح التذمر بعيد عنه، لقد فقدت بيت. لا بأس فإن السماء بيتي، لقد فقدت ثروتي لا بأس فإن ذاك «هو» ثروتي.

أيضاً في وقت الجوع لم يفقد بولس:

2 - ثقته:

نعم فلقد قال: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ» (رومية 8: 25). إن إيمانه في سيده لا يتوقف على حكم الحس. أن ثقة الناس بالمسيح مرتبطة بغرفة الخزين. يعطينا طعاماً فنحن مطمئنون إليه، عالمون أنه لا يتخلى عنا، فإذا ما كف لحظة عن العطاء شككنا فيه. ما هو شعورك لو كانت ثقة أولادنا فينا تستمر طالما حملنا في أيدينا طعامهم؟ وتنتهي إذا ما قصرنا. هل يفتشوا عن أباء آخرين؟

قرأت عن البعثة القطبية التي كان يرأسها الملازم دي لونج أنه رغم ما أصاب القوم من التلف فإنهم لم يفقدوا الثقة بإلههم فرغم جوعهم وتعبهم وعجزهم أن يفعلوا أي شيء. كانوا وسط الثلوج وتحت القبة الزرقاء والبرد القارس يلذعهم يتلون معاً دستور الإيمان الذي يذكرهم بأبوة الله «نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل...» والذي يذكرهم بقدرة الله ومحبته. وبشفاء مرتعشة جائعة يصلون الصلاة الربانية.

وسقطوا الواحد بعد الآخر ورغم ذلك فقد ماتوا وهم يعتقدون أن الله صالح ولقد اعتنى بهم. لم يفقدوا ثقتهم به.

ما أسهل أن نقول قد تدربت أن أشبع. هات يا رب عشرة آلاف دينار هات يا رب بيت، هات مليون، هات مئة مليون ولا شبع. ومع أن الذين فشلوا في درس الجوع كثيرون فالذين فشلوا في درس الشبع أكثر جداً. آدم وحواء، الشعب في البرية، وغيرهم وغيرهم، أما بولس فلقد نجح وخرج من تمرينه منتصراً على الصعوبات الآتية بعد أن شبع من سيده وهي:

الكبرياء:

قال موسى: «لِئَلاَّ إِذَا أَكَلْتَ... كَثُرَتْ لَكَ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ، وَكَثُرَ كُلُّ مَا لَكَ يَرْتَفِعُ قَلْبُكَ وَلِئَلاَّ تَقُولَ فِي قَلْبِكَ: قُوَّتِي وَقُدْرَةُ يَدِيَ اصْطَنَعَتْ لِي هذِهِ الثَّرْوَةَ» (التثنية 8: 12 - 14 و17). أليست هذه هي تجربة الأغنياء إنهم ينظرون إلى قوتهم المفكرة وإلى دهائهم وحسن حيلتهم. وحسن تصريفهم للأمور ويقولون بهذه نلنا أموالنا. يا هؤلاء أذكروا الله.

قال موسى: «بَلِ اذْكُرِ الرَّبَّ إِلهَكَ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِيكَ قُوَّةً لاصْطِنَاعِ الثَّرْوَةِ» (التثنية 8: 18) بعد أن شبع بولس انتصر على:

2 - الطمع:

النقطة الثانية للنجاح في هذا التمرين هي الانتصار على الطمع ومن الغريب أن الثروة تولد الطمع وللطمع شروره وسيئاته.

يقول بعض علماء الحيوان أنهم اكتشفوا أن بعض أنواع الضفادع وهو يتغذى من الطين لا يشبع مطلقاً حتى ينتفخ ويموت من الشبع. أما النقطة الثالثة التي نجح بها بولس.

اعزائي المستمعين احترسوا من الاثنين الجوع والشبع واتكلوا على المسيح وقولوا: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي 4: 13).