العودة الى الصفحة السابقة
العابدون بالحق

العابدون بالحق

جون نور


«أَنْ تُحِبُّوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ، وَتَسِيرُوا فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَتَحْفَظُوا وَصَايَاهُ، وَتَلْصَقُوا بِهِ وَتَعْبُدُوهُ بِكُلِّ قَلْبِكُمْ وَبِكُلِّ نَفْسِكُمْ» (يشوع 5:22).

اعزائي المستمعين إن حياة الإيمان مفعمة بالنشاطات والتحركات، «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ» (رؤيا 2:2). فحياة الايمان، صبر، احتمال، شركة، تعليم الرسل، كسر الخبز، صلوات، تبشير، فعل الخير.. إظهار المواهب والقوات.. وغيرها الكثير من نشاطات الفرد والكنيسة. لكن يبدو أن ما قاله يشوع في آخر القائمة وجب أن يكون أولاً، وقُصد به أن يبقي عالقاً في الأذهان. «وَتَعْبُدُوهُ بِكُلِّ قَلْبِكُمْ».

1 - ما هي العبادة؟

العبادة هي تعظيم وتمجيد وتكريم، هي احترام ومخافة، هي محبة موجهة نحو الله.

لقد استخدم العهد الجديد كلمات عدة للتعبير عن معنى العبادة، لكن أهمّها اثنتان: الأولى بمعنى يقبّل. وهذا لا يعني أن نقبّل وجنتيه، بل أن نقبّل يده؛ أن ننضم إلى قافلة المريمات ونمسك بقدميه وهناك نسجد. هنالك نتقدم بخشوع واحترام وإجلال وتقوى. والكلمة «يقبّل» تجسد أيضاً العبادة المتواضعة.

والكلمة الثانية تأتي بمعنى التمجيد والولاء. وهاتان الكلمتان تعبران عن فكرة واحدة ألا وهي فكرة العطاء.

ينبغي لنا أن نسجد أمام الرب ونمجدّه، ونعظّمه، ونعبده أولاً، ثم ننتظر منه العطاء. «أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ» (2كورنثوس 5:8)، ما أحسنكم عابدين، ما أحسنكم قدوة يا كنائس لاودكية. وهذا لا يعني حدثاً معيناً مرّ في التاريخ، بل حالة دائمة ومستمرة.

نعطي الرب عواطفنا، وشبابنا، وصبانا، وكل ما تبقّى لنا من أيام. نعطيه الممتلكات، والأوقات، والأموال. لا نعطي بالكلام ولا نعبد بالكلام، لأن هذا يحدث عندما تغيب عن أذهاننا صورة الفداء والصليب. لكن عندما نعبد في ظل الصليب، ونعرف أن كل ما عندنا هو نتيجة لعمل الصليب في حياتنا، عندئذ نقدم الكل ونحن نشعر بالخجل، وإذ ذاك نحن نعني العبادة.

في العبادة نتعلم عدم الاستقلال بأوقاتنا، وأموالنا، وممتلكاتنا فعندما نقدّم أجسادنا للرب، نحن نترجم عملياً ما نفهم عن العبادة، ونبرهن أننا نعلم علم اليقين أن أجسادنا ليست لنا بل ملك للرب؛ هو يستخدمها حسبما يشاء.

تعلّمنا العبادة أيضاً عدم الاستقلال حتى في الخدمة والمواهب. فالخدمة ليست ملكاً لأحد، لا للكنيسة، ولا للأفراد. والمواهب تزيدنا تكريساً واقتراباً بل والتصاقاً بالرب، فنمجدّه بصورة أفضل، وإذ ذاك تصبح العبادة نهج حياة، فنعبد فيما نصلّي، وفيما نبشّر، وفيما نخدم، وفيما نقوم بأعمالنا اليومية.

العبادة هي مولّد الحياة الروحية (الدينمو). فهي التي تبعث الحرارة والحياة والنشاط على الرغم من الضيق والانزعاج، وهي تؤمّن النشاط والعزيمة في وسط ضغوط التجارب. فحياة الإيمان التي لا تستطيع أن تتخطى الصعاب وتقفز فوق الحواجز لا قيمة لها.

أن نعبد الرب يعني أن تكون لنا حياة خفية معه. وفي هذه الحياة الخفية نملأ خزان حياتنا الروحية بتعزيات الروح القدس والأفراح الإلهية وسلام الله الذي يفوق كل عقل. ونشعر في نفوسنا – أمام الصليب – بأننا منتصرون وغالبون. إن بطلنا حيّ، ونحن أحياء فيه؛ وعلى هذا الأساس نعيش في هذا العالم؛ وما يبدو من تصرفاتنا وسلوكنا ينمّ عن حياتنا الخفية مع الرب.

عندما تصبح حياتنا رمادية اللون، نعرف أن الظلام بدأ يزحف إلى الحياة، وهذا يعني أن هنالك خللاً في العبادة. فالعبادة هي مولّد الحياة الروحية التي تلهب القلب والعاطفة وتشدد الإرادة وسائر جوانب الحياة، فتصبح الحياة بجملتها حياة ملتهبة.

لانه عندما يمتلئ القلب بالمحبة ويفيض بالشكر، فلا مجال للحزن ولا للتذمّر أو الشكوى في أي ظرف نكون فيه. يجوز أن نبكي ولكن بفرح، وأن ننزعج ولكن بشكر.

2 - ضرورة العبادة

إن الله خلق الإنسان لكي يعبده؛ ونلاحظ أن في تركيب الإنسان برنامجاً للعبادة. فالسفينة مجهّزة بطريقة تقدر فيها أن تمخر عباب اليم، والطائرة مصممة لكي تطير، والعصفور لكي يغرد، والإنسان لكي يعبد. مسكين المؤمن الذي فقد هذا الاختبار اليومي المجيد مع الرب. ومسكين المؤمن الماهر بفنون كثيرة ولكنه ليس ماهراً في فن العبادة.

هذا هو البرنامج، هذا هو المخطط الذي خُلق الإنسان لأجله. وهذا ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات: عقله.. لكي يختار الشركة مع الله.

متى سقط الإنسان؟ سقط عندما فشل في العبادة. كان الإنسان يعبد الله، ويحب الله، ويمجدّه، وله شركة مع الله. لكن عندما ابتعد الإنسان عن هذا المقام، وأراد أن يصبح مثل الله، وبدل أن يكون عابداً أراد أن يصبح معبوداً، سقط. من هنا نعلم مدى قوة التجربة التي جرّب بها الشيطان يسوع في البرية. جاء إليه لكي يفشّله من العبادة، لكي يسقطه. «إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي» (متّى 9:4). فبادرة يسوع بالقول: «.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى 10:4).

لا نستطيع أن نتصنّع العبادة أو نقلّد العابدين. فالعبادة تكريم من القلب، وتمجيد من القلب، وتسبيح من القلب على أساس الاختبار والولاء الكامل للرب. الرب يعيننا على إتقان فنّ العبادة، نحن الذين اختبرنا خلاصنا في المسيح ودخلنا في عداد الخليقة الجديدة المخلوقة بحسب الله في البر وقداسة الحق.