العودة الى الصفحة السابقة
سلامي أعطيكم

سلامي أعطيكم

جون نور


«سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ» (يوحنا 27:14)

هاتان الكلمتان اللتان نطقت بهما شفتا المسيح في ذلك الوقت كانتا أكثر من تحية شرقية عادية، فقد تضمنتا بركة المسيح الوداعية لمن أحبهم إلى المنتهى. في اللحظة التي نطق فيها بهاتين الكلمتين اعتبرتا هبة من الرب يسوع إلى الأبد لتلاميذه الأحباء، ولكل المؤمنين في كل العصور، هبة السلام الذي كان يفيض من قلبه. لعلهم لم يدركوا كل ما كانت تنطوي عليه هاتان الكلمتان من معاني. لكن عجزهم هذا لم يمنع غنى ومجد تلك الهبة. وإذ مرت الأعوام استطاعوا أن يكتشفوا رويداً رويداً عمق المعنى الذي كانت تنطوي عليه هاتان الكلمتان اللتان لا يسبر غورهما.

جدير بنا أن ندقق لنتأمل في حرف «الياء» الذي أضافه مخلصنا لكلمة «سلام» فقال «سلامي». فهو لم يتحدث عن السلام الذي اشتراه بدمه. ولا عن السلام الذي صنعه، ولا عن السلام الذي يمنحه، بل عن السلام عينه الذي ملأ قلبه فجعله ثابتاً هادئاً مطمئناً وسط العواصف الكثيرة التي هبّت عليه أثناء وجوده في عالمنا. هو ينتظر ليمنح هذا السلام، وإذ يقف بجوار كل سامع لهذه الكلمات، وقد ضغطت عليه الهموم والمتاعب، وتعب رأسه من التفكير المضني، وانكسر قلبه من الحزن الشديد، فإنه يتحدث إليه قائلاً «سلامي أعطيك». فلنطالبه بتحقيق وعده، ولنتمتع بهذه العطية بالإيمان فرحين.

إذا رجعنا للآيات الثلاث (يوحنا 19:20 و21 و26) التي تتضمن بركة سلام الرب يسوع المسيح لتلاميذه استطعنا أن نميز ثلاثة ظلال لمعنى السلام الذي يهبه:

أولاً: سلام الغفران

هذا هو سلام المساء. عندما ينتهي النهار بمشاغله الكثيرة وهمومه الوفيرة ومطالبه العديدة التي ثقلت القلب والرأس واليدين، فإننا نجد راحة عظيمة إذ نغلق الأبواب، ونمنع كل متطفل من الدخول، ونلتقي بالأحباء الذين في البيت. ومع ذلك فحتى في هذه الأوقات تبقى هنالك أفكار لا نستطيع أن نمنعها من الدخول.

يستطيع التلاميذ أن يغلقوا أبواب العلية لسبب الخوف من اليهود. لكن هذه الأبواب لن تستطيع أن تمنع دخول ذكريات خيانتهم الأخيرة، وعدم أمانتهم وجبنهم وتنحيهم عن المسيح. كانت هذه الذكريات أشد وقعاً على نفوسهم من خوفهم من هجوم الأعداء عليهم. وكثيراً ما كان هذا هو اختبارنا. فإن اليوم الذي أشرق صحواً مبهجاً قد أعتمت سماءه حوادث محزنة أليمة استطعنا أن نتجاهلها وسط مشاغل الحياة. لكنها عادت لتضغط على قلوبنا وتملأها حزناً.

إن أكبر معطل للسلام هو الشعور بالخطية، والذي يمنح السلام يجب أن يعالج الخطية أولاً. ومخلصنا وحده هو القادر على إتمام هذا العمل. فهو الحمل الذي خرج من الجلجثة كأنه مذبوح (رؤيا 6:5)، معلناً ضمان تبريرنا لكي نستطيع أن نقول مع الرسول: «إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ» (رومية 1:5)، ونضطجع لننام مع ملائكة السلام التي تراقبنا أثناء ساعات الاضطراب.

ثانياً: سلام في الخدمة

الرب يسوع المسيح، أرسلنا لإتمام مشيئته وإتمام العمل الذي أعطاه لنا لنعمله إن من قال لتلاميذه «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا 21:20)، يردد نفس القول لكل واحد منا كل صباح.. هنالك خطة مرسومة لعمل كل يوم، وهو مستعد أن يكشفها لنا إذا ما طلبنا منه ذلك هنالك إرسالية معينة تنتظرنا. هنالك عمل شاق يجب أن نؤديه من أجله. هنالك درس يجب أن نتعلمه بالصبر لكي نكون أكفاء أن نعلمه لآخرين أيضاً.

ألا نجد معونة كبيرة إذ نسمعه يقول لنا كل صباح، عندما يكشف لنا خطته، ويهب قوته، ويرسلنا «سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» وهذا السلام لا يستطيع العالم أن ينزعه. ففي وسط اضطرابات العالم وانزعاجاته يحفظ قلوبنا وأفكارنا في «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل» (فيلبي 7:4). «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا 33:16).

ثالثاً: سلام وقت الحزن

هذا هو سلام الساعات المظلمة. هذا الزمن كثيراً ما أظلم قلوب البشر وثقلها. كما فعل بقلوب التلاميذ ولا سيما توما. لقد كان حزن شكه بنسبة قوة ورقة محبته (يوحنا 16:11).

إن الساعات المظلمة تأتي لجميعنا. وإن لم يكن لدينا مفتاح السلام فإننا نصير في حالة فزع وخوف باستمرار. وما لم نتعلم بأن نثق في أن من يبعث السلام داخل النفس قريب منا فإن أقل شيء يقلقنا ويزعزعنا.

لا تدع شيئاً يأتي إليك دون أن تسلمه في الحال للمسيح.. كل الاضطرابات التافهة، وكل الصعوبات الجسيمة، كل عجز عن أن تؤمن. حدثه عن كل شيء، فهو يعرف كل شيء ويحبنا إلى المنتهى. وإجابة لهذا فإنه يسكن قلوبنا المنزعجة، ويطرد عنها مخاوفها، ويطيب خاطرنا كما تطيب الأم خاطر ابنها.

«سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ» (يوحنا 27:14).