العودة الى الصفحة السابقة
بركة العطاء الصادق

بركة العطاء الصادق

جون نور


القراءة مرقس 41:12-44

"وجلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقي الجمع نحاساً في الخزانة" (مرقس 41:12).فماذا رأى ..رأى امرأة فقيرة تلقي بتقدمتها في صندوق عطايا الهيكل. فماذا قال "إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة" (مرقس 43:12).

وها هو اليوم يجلس جلسة الاهتمام بالعابدين. فالمسيح لم يُغفل ناحية من نواحي حياة الإيمان لكي يهتم بناحية أخرى. كما أن يسوع لا يحسب أن النجاح في ناحية معيّنة يغطّي على الفشل والضعف في نواحٍ أخرى، إذ كان يعلّم: "ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك" (متى 23:23).

جلس يسوع تجاه الخزانة، حيث يُلقي العابدون قرابينهم وتقدماتهم، جلس لكي يلاحظ هؤلاء العابدين. جلس يسوع وسط الشعب ليراقب الأفراد الذين يمارسون نوعاً من التحركات الدينية والروحية، وليهتمّ بكل عابد بمفرده. يراقب ويقيس لكي يعطي النتائج. أود القول أن مقاييس المسيح تختلف عن مقاييسنا لأنها روحية وسماوية، "ولأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1 صموئيل 7:16).

جلس المسيح تجاه الخزانة ليقيس العابدين ثم دعا تلاميذه ورفع إليهم تقريراً فيه الكثير من التعاليم. ويتطرق المسيح إلى النواحي المادية والتي لها علاقة كبيرة بالنواحي الروحية. فالطريقة التي نتصرف فيها مادياً قد تعبّر كثيراً عن مكونّات حياتنا الروحية وأبعادها.

يقدّم المسيح تقريره ويأتي على الشكل التالي: "إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة" (مرقس 43:12).

نجد في هذا التقرير ما يلي:

1 - إن يسوع يتحدّث عن كمية العطاء. وعندما يتحدّث يسوع عن العطاء لا يقصد العطاء المادي فحسب، بل العطاء بشكل عام. ذلك لأن العطاء لا يتجزأ، فمن يُعطي من ماله يعطي من وقته ومن طاقاته ومن إمكاناته. فعندما جلس المسيح ليراقب العطاء، كان يراقب الشخصية والتصرف والمواقف، وكان يراقب الحاضر والمستقبل وحالة العابدين حاضراً ومستقبلاً نتيجةً لهذا العطاء.

أتى تقرير المسيح على النحو التالي: "هذه الأرملة الفقيرة ألقت (كمّية) أكثر من الجميع". على أية أسس اعتمد المسيح في حساباته حتى توصّل إلى هذه النتيجة؟ يقول المسيح إن هذه الأرملة قدّمت من إعوازها، أما أولئك فقدّموا من فضلتهم. هذه قدّمت مالاً ادّخرته من معيشتها، أما أولئك فممّا فاض عنهم. قدّموا لنفوسهم ولسدّ حاجاتهم وشراء كمالياتهم وما تقتضيه حياة البذخ والبطر؛ ومن جملة ما قدموا، شيئاً في الخزانة. إذاً، هي قدمت الكل وهم قدّموا الجزء.

فكمية العطاء التي يطلبها الرب هي أن نقدم ولا نبخل على الرب بشيء، إذ هو عالم بما قدّمنا وبما كنا نستطيع أن نقدمه بعد.

هل نسمع نحن هذا الكلام من يسوع، لو جلس تجاه الخزانة التي نُلقي فيها خدماتنا وأموالنا وأوقاتنا ومجهودتنا وعلومنا، هل يقول، إن هذا ألقى كل ما عنده، ألقى من إعوازه، وصل إلى درجة الإفلاس؟ الجواب أتركه لكم.

2 - إن يسوع يتحدّث عن أسلوب العطاء وليس فقط عن الكمية. "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقي الجمع" (مرقس 41:12). وهذا الأسلوب لا يراه إلا يسوع. وفي تقرير المسيح نجد أن الأسلوب كان أولاً، بإيمان. هذه الأرملة ألقت كل ما عندها بإيمان لن تهتمّ للغد. والرب يغّبط الإيمان كثيراً، إذ "بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه" (عبرانيين 6:11)، "وأما البار فبالإيمان يحيا" (رومية 17:1).

ويهمّ المسيح كثيراً أن نتجرد من كل سند يُضعف حياة الإيمان فينا. فهذه المرأة كانت أرملة وفقيرة ومسكينة لا سند لها، ولا رصيد، ولا تأمل بدخل للغد، ومع هذا كله لم تهتم للغد لأنها صدّقت كلام المسيح حين قال: "فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه" (متى 34:6). تأملت زنابق الحقل، وطيور السماء كيف أنها لا تزرع ولا تحصد والآب السماوي يقوتها، وآمنت بقول المسيح: "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (متى 30:10). فألقت كل ما عندها بإيمان ومن دون تردد.

3 - إن يسوع يتحدّث عن دوافع العطاء. والدوافع هي التي تقرر الكمية والطريقة. أعطت هذه المرأة ً، لكي تشارك في خدمة الرب، وكان لديها هذا الشعور بأنها من خلال هذه التقدمة البسيطة المقدّمة بإيمان وسرور ومن كل القلب تساهم مساهمة فعّالة في الخدمة. وهذا أعظم امتياز يُعطى لأي إنسان أن يكون له حق المشاركة في خدمة الرب. إذاً، فالاشتراك في الخدمة يقتضي تقديم الإمكانيات المتوافرة لدينا.

وأعطت لأنها تحب الرب. الأغنياء قدموا للهيكل أما هي فقدّمت للرب. إنها تعطي كل ما عندها للرب لأنها أعطت نفسها أولاً للرب. إنها تعبّر بشكل عملي عن أنّ ما تملكه هو للرب. لا نقدر أن نفصل نفوسنا عن عطائنا. نحن للرب وما نعطيه يجب أن يكون للرب.

وأخيراً، لابد من التوضيح، أن الرب عندما وضع ترتيب العطاء المادي، وضعه لكي يساعدنا حتى تبقى حياتنا روحية بعيدة كل البعد عن تجارب محبة المال. فالعطاء يقتلع منا جذور محبة المال التي هي "أصل لكل الشرور" (1تيموثاوس 10:6) والتي "تغرق الناس في العطب والهلاك" (1تيموثاوس 9:6).

هل نعبّر في عطائنا عن اتحاد كامل بالمسيح وأن ما يخصه يخصنا، وما عطاؤنا سوى مساهمة ومشاركة تؤكد هذا الاتحاد؟