العودة الى الصفحة السابقة
محبة الأعداء

محبة الأعداء

جون نور


{سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك؛وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم} (مت 43:5 ، 44).

دعونا نعترف أن محبة الأعداء أمر غريب تماماً على طبيعتنا البشرية، بل إن الانتقام من أحب الأشياء إلى القلب البشري. ولا يوجد دين في العالم يحض الناس على أن يحبوا أعداءهم، فهذا ضد طبيعة البشر ، لكن على العكس من ذلك، نجد التحريض على الانتقام من الأعداء لكي تشفى الصدور المليئة بالغل.

حتى جاء المسيح، وسمعنا عجباً يوم قال لسامعيه في موعظة الجبل:

{سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك؛وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم} (مت 43:5 ، 44).

يا لها من كلمات ذهبية، ويا له من مستوى راقٍ ما طمح إليه البشر يوماً. إنها الروح المسيحية الحقة كما عبر عنها له كل المجد.

إنه مستوى لا نستطيع أن نصل إليه بأنفسنا، بل نحتاج إلى طبيعة جديدة، هي طبيعة الله. نحتاج أن نصير {شركاء الطبيعة الإلهية} حتى يمكننا أن نتمثل بالله كأولاد أحباء. {فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء، واسلكوا في المحبة} (أف 1:5).

لكن عطاء الله لا يقف عند هذا الحد، بل إنه أرسل ابنه الوحيد الحبيب إلى الأعداء لكي يعلن لهم محبته {ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا} (رو 8:5). نعم لقد كنا أعداء، لكن {ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه} (رو 10:5). فلا عدواتنا ولا جهلنا حالا دون محبته ودون بذله.

على أن المسيح لم يعلم فقط محبة الأعداء، لكنه عمل بما علم، وفعل ما كان ينادي به.

لقد واجه عداوة لم يواجه بها إنسان، لقد تطاول عليه عبيد العبيد بمختلف الإهانات، ورؤساء الكهنة عوجوا القضاء ليدينوه، وهيرودس احتقره، وبيلاطس أهدر حقوقه، وحكم عليه بعد أن نطق ببراءته، وعامة الشعب هتفوا ضده، ثم غرس العسكر الرومان المسامير في يديه ورجليه؛ فكان رده على هؤلاء وأولئك {يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون}.

نعم لقد أحب المسيح أعداءه، وغفر لهم، وصلى من أجلهم، بل والتمس لهم العذر في عدواتهم! إن المجني عليه عادة لا يرى القضية إلا من جانبه هو، ولا يرى في الطرف الآخر إلا ما يدينه، لكن المسيح وقف محامياً عن أعدائه، وفتح لهم بصلاته باب مدينة الملجأ التي يدخل إليها قاتل النفس سهواً؟

ولقد كان هذا الموقف من الأعداء موقفاً ثابتاً طوال حياته. دخل مرة قرية للسامريين {فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجهاً نحو أورشليم، فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً؟ فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص} (لو 53:9 – 56).

على أن هذه الروح عينها هي التي ميزت أتباع المسيح الحقيقيين في كل زمان ومكان، وها هو شهيد المسيحية الأول، استفانوس، مقتدياً بسيده، يصلي من أجل الذين يرجمونه حتى الموت {يا رب لا تقم لهم هذه الخطية}.

وها هو بولس في سجن فيلبي يشفق على السجان الذي كان قبل لحظات يوقع عليه الضربات الشديدة، ويضبط رجليه مع سيلا في المقطرة، وينادي عليه بصوت عظيم قائلاً: {لا تفعل بنفسك شيئاً رديئاً لأننا جميعنا ها هنا}، وذلك عندما استل سيفه مزمعاً أن يقتل نفسه. وهو أيضاً كتب للمؤمنين في رومية موصياً {فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه} (رو 20:12).

إن من اختبر الظلم والافتراء في حياته، ومن مسه الضرر يوماً من حقد الأعداء، يعرف كم من الصعب عليه أن يغفر، فضلاً عن أن يقابل الإساءة بالإحسان والبغضة بالمحبة. لكن هكذا علمنا المسيح، وهكذا نحن مطالبون أن نفعل.

ونحن لا نستطيع ذلك إلا إذا كنا قريبين منه، وفي شركة حقيقية معه، فتنطبع صورته فينا بالروح القدس {ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف ... نتغير إلى تلك الصورة عينها}.

إن محبة الأعداء ليست مسألة مشاعر أو عواطف بالدرجة الأولى، لكنها قضية إرادة. إنها تحتاج إلى نعمة من السماء، ويمكنها أن تظهر فقط عند الذين يتمتعون بحياة جديدة من الله، والذين يسلكون في جدة هذه الحياة.

حين كان ربنا يسوع معلقاً على الصليب، وكانت أمة حاضرة هناك مع بعض النساء الأخريات التقيات، وكان هناك أيضاً تلميذ واحد: {التلميذ الذي كان يسوع يحبه}. ولكن أين كان التلميذ الذي كان يعتمد على محبته ؟! لقد كان هناك في مكان بعيد، بقلب مكسور يبكي بدموع فائضة، يغطيه الخجل والعار! ... أما التلميذ الذي كان يثق في محبة الرب له، فكما كان في العلية، هكذا نراه عند الصليب؛ في موضع القرب من الرب يسوع. وماذا كانت النتيجة؟ أصبح إناءً نافعاً ومستعداً ومؤهلاً لخدمة سيده إذ عهد إليه بالعناية بأمه. وهكذا نرى: أن الثقة في محبة الرب لنا تجعلنا مؤهلين لخدمته.