العودة الى الصفحة السابقة
عناية الله الفائقة

عناية الله الفائقة

جون نور


«وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية 28:8).

هذه الآية المباركة التي نطق بها الوحي الإلهي على لسان بولس الرسول، تحمل تعزية كثيرة لكل انسان في وقت التجربة. الرسول بولس يقول: «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير». إنه لا يشك في هذه الأقوال المباركة، ولا يتساءل عن صحة هذه الحقيقة وقت التجربة، لكنه يؤمن إيماناً مطلقاً بعناية الله السائدة على كل شيء، والمسيطرة على كل أمر. إنه يثق بالله الذي يحول كل شيء للخير. من أجل ذلك فهو لا يتذمر في أي ظرف ولا يشكو من أية تجربة، لكنه «يشكر في كل شيء». هذه الحقيقة جعلته يترنم مع سيلا وهو في السجن الداخلي وأرجلهما في المقطرة (أعمال 25:16). لقد كانت الضربات قاسية والجروح دامية، ومع هذا فإنهما كانا يثقان أن كل الأشياء تعمل معاً للخير وأن الرب كان حاضراً معهما. فهل يا ترى لنا هذه الثقة التي تمتع بها بولس قديماً؟

هذه الحقيقة لا يستطيع كل إنسان أن يؤمن بها. ففي وقت الحزن والألم والتجربة، كيف يصدق الإنسان أن كل الأشياء تعمل معاً للخير! وهل المصائب التي تلحق بالإنسان هي للخير؟ هذه الحقيقة حيرت الكثيرين. لكن إن كنا نريد فهم هذه الآية فعلينا أن نقرأها جيداً. فكل الأشياء تعمل معاً للخير، ليس لجميع الناس لكن فقط «للذين يحبون الله»، «الذين هم مدعوون حسب قصده». إذاً فهذه الآية مشروطة، وهذه الحقيقة خاصة بجماعة المؤمنين فقط. فالمؤمن الحقيقي الذي يحب الرب من كل قلبه يدرك مقدار محبة الله الفائقة من نحوه، ويعلم مقدار المعزة التي في قلب الله من جهته. لكن الخطاة لا يستطيعون إدراك هذه الحقيقة لأنهم لا يحبون الله ولا يشعرون بمحبة الله لهم، ولا توجد بينهم وبين الله شركة روحية لأن قلوبهم منجذبة للخطية. من أجل هذا فهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة. «ان كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله».

هذه الآية المباركة تتضمن أربع حقائق هامة وهي:

أولاً – مقاصد الله صالحة:

«كل الأشياء تعمل معاً للخير». إن كلمة خير هنا لا تعني الخير الزمني، لكن الخير الروحي. قال أحدهم: «يخطئ الكثيرون الذين يظنون أن الخير معناه صحة بلا مرض، مال في الجيب ورصيد في البنك، منزل حديث به جميع وسائل الراحة، تعظم في المعيشة، ورغدة في الحياة. هذه نظرة مادية خالية من الروحانية. إن الراحة الجسدية ليست الخير الروحي، والنجاح المادي لا يساوى الخير الروحي. إن الحق الإلهي الذي نادى به بولس الرسول في (رومية 28:8) لا يتفق مع هذا الاعتقاد الخاطئ الذي يؤمن به الكثيرون. لان المر الذي يختاره الرب لنا خير من الحلو الذي نختاره نحن لأنفسنا، والدواء المر الذي يقدمه لنا طبيبنا الأعظم خير من الشراب الحلو السام الذي يقدمه لنا الشيطان.

وثانياً – مقاصد الله فعالة:

«كل الأشياء تعمل معاً للخير» إن مقاصد الله فعالة وغير خاملة، فالله يجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير. ربما نظن في أوقات المصائب أن الله غافل أو ساكت أو غير مكترث. لقد عاتب الكثيرون الله في وسط التجارب وقالوا له: «لماذا تصمت يا الله؟»، «أما تبالي؟». لكنهم بعد حين فهموا جيداً كيف أن مقاصد الله كانت فعالة، والرب لم يغفل أو ينم لكنه ساهر على أولاده، ليجري مقاصده الصالحة لهم.

وثالثاً – مقاصد الله شاملة:

كل الأشياء تعمل معاً للخير». إن مقاصد الله الصالحة تسيطر على كل الأشياء فالأمراض والتجارب، والأحزان والضيقات والمفشلات وكل ما يصادفنا في هذه الحياة تخضع للمقاصد الإلهية. إن مقاصد الله تسود على تفاصيل حياتنا اليومية، لأن الله يهتم بكل كبيرة وصغيرة في حياتنا. لأنه إن كانت عناية الله الفائقة تهتم بالعصافير فلا يسقط واحد منها إلا بإذن منه، فكم بالحرى أولاد الله المفديين الذين لهم معزة خاصة عنده. فلو سمح لنا بالمرض فلكي يشعرنا بضعفنا وحاجتنا لنعمته. وإن سمح لنا بالحيرة فلكي يجعلنا نشعر بحاجتنا لحكمته. وإن اختفى عن أنظارنا إلى حين فلكي يشوقنا لطلعته الإلهية فنزداد تعلقاً به وحنيناً لشخصه.

ورابعاً – مقاصد الله متناسقة:

إن كل أعمال الله تسير حسب النموذج المرسوم من قبله، فهي لا تحدث اعتباطاً لكنها تخضع للبرنامج السماوي. وكل الأشياء التي تصادفنا متناسقة ومرتبطة بالمشيئة الإلهية. إن الحياة تشبه لوحة من قماش مزركش. ولكي تكون هذه اللوحة جميلة يجب أن تكون خيوطها متعددة الألوان وليست لوناً واحداً. فبعض الخيوط يكون زاهياً وجميلاً والآخر يكون قاتماً مظلماً، وهذه كلها حين تجتمع معاً بمهارة وحكمة تكون منظراً بديعاً. إن الخيوط القاتمة لازمة جداً لجمال اللوحة تماماً مثل الخيوط الزاهية. وهكذا بعض التجارب تكون لازمة لنا لتكمل جمال الحياة الروحية السامية التي قصدها الرب لنا.

هذه الصورة نراها بوضوح في حياة يوسف الصديق الذي توالت عليه المصائب والتجارب من اخوته ومن الشيطان. وصعب عليه في بادئ الأمر فهم معاملات الله معه، لكنه تيقن أخيراً صلاح الله معه، إذ قال لإخوته: «أنتم قصدتم لي شراً. أما الله فقصد به خيراً» (تك 20:50).

أعزائي المستمعين لتكن لنا الثقة دائما وأبداً «أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده».