العودة الى الصفحة السابقة
المسكنة هي مفتاح الملكوت

المسكنة هي مفتاح الملكوت

جون نور


«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (متّى 3:5).

تبنى العروش الأرضية عادة ومعها درجات تصعد إليها. لكن الأمر البارز في ضورة عرش ملكوت السماوات أن الدرجات تنزل إليها. ينبغي أن ننزل إن أردنا أن نملك، وأن ننحني إن أردنا أن نقوم ونرتفع، ونمنطق أنفسنا لنغسل أقدام التلاميذ، كما يفعل العبد عادة، وذلك لكي نشارك سيدنا في عظمته.

لم يوجد مسكين بالروح مثل يسوع، ومع ذلك فإنه في كل مواقفه مع الفريسيين والكتبة كان شامخ الرأس، قوي الروح رهبته تفوق رهبة الملوك، الأمر الذي أذهلهم، فاضطر أعداؤه إلى تقديم كل الولاء له مرغمين. لما قال بيلاطس عن المسيح هوذا الإنسان (يوحنا 5:19) بعد أن كان قد جلد المسيح بقسوة، كان المسيح لا يزال محتفظاً بشجاعته. وقال الفريسيون بعضهم لبعض: أنظروا إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم كله قد ذهب وراءه. وهذه الروح لازمت دواماً أتباع المسيح. فقد كانوا دواماً يحسبون أنفسهم فقراء ومساكين وضعفاء، لكنهم لم تنقصهم شجاعة الروح، ولم تعوزهم تلك الصفات التي مكنتهم من أن يقفوا ثابتين غير متزعزعين وسط أحقاد أعدائهم، وكانوا كالصخر الذي يلاطم الأمواج.

لكي نكون مساكين بالروح ينبغي أن نتطلع إلى ربنا المبارك، فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح «أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كورنثوس 9:8). في أمجد أعماله كان يتحاشى أن ينسب لنفسه أي مجد. لم يكف عن استخدام سلطانه العجيب وقدرته اللانهائية، ولغته التي لا تباري. وذلك كله لم يكن على سبيل الافتخار، بل من أجل تخفيف الآم البشرية، وتقديم أسمى التعاليم للعالم. لم يكف مطلقاً عن التحدث عن إرسالية الآب له، الأمر الذي يبرره لنا إنجيل يوحنا أكثر من أي إنجيل آخر. ولم يكف كذلك عن التحدث عن أن مسرته هي إتمام مشيئته هو، وإتمام العمل الذي سلمه إياه والتحدث بالكلام الذي أعطاه إياه.

- مسكنة الروح لا تفرح بما تمتلكه:

في بداية الحياة المسيحية نحن نسعى باجتهاد للحصول على بعض الفضائل والنعم. لقد قرأنا عنها، أو رأيناها مجسمة في الآخرين، إلى أن شدتنا بجاذبيتها. ثم نجاهد للحصول عليها.

وفي بعض الأحيان نهنئ أنفسنا لأننا حصلنا على جزء منها. ويقيناً إن النفس، إذ تفارق حاضرها بماضيها، تقول: إنني الآن أكثر طهارة مما كنت، وأكثر تواضعاً، وأكثر رقة.

والنفس تتزين بحليها وجواهرها كما تخرج الشابة من خزانتها حليها التي أعطاها لها محبوبها والمعجبون بها. وهذه النفس المعجبة بنفسها تتحطم إذ تسقط مروعة، أو يتكرر سقوطها إلى أن نرى بأننا لا يحق لنا أن نملك الصلاح، كما لا يحق للغرفة أن تملك النور الذي يملأها. فتلك الأمور ليست ملكاً لنا، إنما قد تسلمناها من المسيح، ونحن نتمتع بها على قدر ما نثبت فيه وهو يثبت فينا. فإنني لست صالحاً، لكن يسوع الثابت في هو مصدر الصلاح. وأنا لست متواضعاً، لكن يسوع الساكن فيّ يستأسر كل فكر متكبر إلى طاعته (2كورنثوس 5:10).

– ومسكنة الروح تشعر بعدم القدرة التي تتطلب مستلزمات الخدمة:

يأتي إلينا الناس متلهفين. فالواحد يقول: إنني مضطرب عقلياً، أرجو أن ترشدني إلى العلة. وآخر يقول: لقد أوثقني الشيطان، أرجو أن تحل وثقي. وآخر يقول: إنني في حاجة إلى المزيد من الروح القدس، أرجو أن تعلمني. وآخر يقول: ابنتي معذبة جداً من الشيطان، أرجو أن تخلصها منه وإجابة على كل هؤلاء يقول المسكين بالروح. ليس لدينا ما يكفي لكل هذه المطالب. ليس لدينا فضة أو ذهب لكن لدينا شيء واحد نستطيع أن نفعله، هو أن نصلي، ونرفع حاجتك إلى الله. نحن نرتضي بأن تكون الآنية التي يستخدمها الله لقضاء حاجتك.

حاول بأن تكون غصناً. إن كنت غصناً يحمل ثماراً ناضجة ووفيرة فإن كنت كذلك فأنسب ذلك لأصل الشجرة. دع المسيح يحيا فيك. لو كان النور الذي يسطع على البحر وشاطئه ينسب للأرض التي يكسبها هذا النور جمالاً لكانت نعمة المسيح تنسب لك أو لي كأنها ملك لنا. «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟» (1كورنثوس 7:4).

إياك أن تقيس نفسك بمن هم أدنى منك، بل بالله الذي في الأعالي.

نحن نميل جداً إلى أن نقارن ثيابنا البيضاء بثياب الآخرين القذرة، والأحرى بنا أن نقارنها بالثياب التي لا يقدر قصار على الأرض أن يبيض مثلها (مرقس 3:9).

تطلع إلى كل الصلاح الذي في إخوتك.

هنالك أكثر جداً مما نفتكر حتى في من لا يعترفون بأنهم متدينون. «لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا» (فيلبي 3:2 – 4)

قد تكون هنالك بعض الأسباب التي أدت إلى عدم تمكن الآخرين من الوصول إلى إسمى درجات الكمال، وفي نفس الوقت إن كان الآخرون قد حصلوا على ما نتمتع به نحن من امتيازات لصاروا أفضل منا جداً لأن ملكوت الله يعني سلاماً على الأرض، ومسرة للناس. كان العرش في نظر ربنا يعني المقدرة على بركة الناس، هذا هو السبب الوحيد الذي يدعو الناس ليرغبوا في الجلوس عن يمين العرش أو يساره. إن طلب الملكوت بقصد التظاهر، أو الأرباح المادية، أو الكبرياء، طمع باطل وتافه ودنيء، ومحتقر. أما الرغبة فيه بقصد التأثير على الناس تأثيراً حسناً، ووضع نواميس للحياة الصالحة المستقيمة، وتعضيد الفقراء، وإنصاف المظلومين. فهذا قصد نبيل. هذا هو السبب الذي يدعو المساكين بالروح أن يشتهوا أمجاد الملكوت.