العودة الى الصفحة السابقة
الحية تبتلع الحمامة

الحية تبتلع الحمامة

جون نور


«إن لم يكن لنا بعض حكمة الحيات، فلن نقدر أن نحتفظ طويلاً ببساطة الحمام. والإنسان الجاهل الكثير الأخطاء يقدر أن يفعل كثيراً من الأذى في يومه».

قال لي أحدهم: إن المسيح نطق بلغز غامض في قوله: كونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام. لأنه جمع النقيضين. وهيهات أن تأتلف الحكمة مع البساطة .. وواقع الأمر غير ذلك. لأن المسيح طلب إلى أتباعه أن يكونوا هكذا لأنه طبيعة عملهم تقتضي الحالتين. ففي دعوتهم إلى رسالة المحبة التي جاء بها إلى العالم، يجب أن يكونوا بسطاء مخلصين، في نقاوة القلب وطهر الضمير. ولكن كمصلحين عاملين على قلب العالم، وغزو معاقله، (عليهم أن يواجهوا حكمة العالم بحكمة من نوعها). ذلك لأن كل مناد برسالة جديدة تصدمه حتماً كراهية العالم، ودهاء البشر، وخبث الإنسان. والبساطة المجردة لا تصمد أمام هذه القوات الهائلة.

وهذه مشكلة يلقاها كل منا في حياته العادية. فرجل الأعمال يواجه في هذا العصر مشكلة في محاولة التوفيق بين النزاهة وطهارة الذمة، وبين التنافس الشديد. وكلنا يلقي صعوبة في التوفيق بين الأمانة وبين رعاية المصلحة الذاتية.

وفي تهذيب أخلاق الفرد نصطدم بهذه المشكلة عينها،فكيف نكون بسطاء في القلب، أنقياء في القصد، وفي الوقت نفسه نظهر الحرص والحكمة والدراية التي هي من مقتضيات كل حياة كريمة فاضلة؟ وكيف نكون كرماء نحو الآخرين، وفي الوقت عينه حكماء حتى في كرمنا، لكي لا نأتي شراً بدل الخير الذي نقصده؟ وكيف نصون أنفسنا بلا عيب في العالم، وفي الوقت عينه نغوص في تيارات العالم المتلاطمة، كيف نكون بصيرين في غير مكر، حكماء في غير أنانية، أخياراً صالحين في غير جهل، بسطاء في غير ضعف.

الحكمة والبساطة معاً

هذان العاملان ضروريان في الحياة العملية. ونقص أحدهما ينجم عنه حتماً اختلال في توازن الأخلاق وانسجام الحياة. ونحن نشهد في الحياة في مواقف كثيرة مثل هذا الاختلال في التوازن، حينما تتوافر الحكمة والرصانة والفطنة دون بساطة العقل وهذا الإنذار يصلح لنا في هذا العصر من وجوه شتى. فنحن يداهمنا دائماً خطر تطليق الدين من الحياة وحاجاتها وإحداثها. وقد نجعل الدين شعوذة أو روحانية باردة، لا أساس لها من العقل، ولا ثمار لها في العمل. واهمين أننا لسنا مطالبين باستنباط الوسائل واستخدام عقولنا، بل أن نترك كل شيء لله اكتفاء بهذا الموقف السلبي.

إننا نؤمن بأشياء كثيرة ليست من الدين في شيء، والله لا يرضاها ولا يقبلها. ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى الحكمة لنرضي الله، ونصون إيماننا من السخافات والأباطيل، على أن نحتفظ في الوقت عينه ببساطة القلب ونقاء الأخلاق. وإن لم يكن لنا بعض حكمة الحيات، فلن نقدر أن نحتفظ طويلاً ببساطة الحمام. فالإنسان الجاهل الكثير الأخطاء يقدر أن يفعل كثيراً من الأذى في يومه. وصدق الشاعر الذي قال «ليس الجهل براءة، بل خطية». وكل أخلاق قوية لا غنى لها عن الحكمة.

ويقول الناس عادة في أحاديثهم عن الرجل الساذج الأبله: هذا رجل طيب وكثيرون من الكّتاب يرسمون الأخيار الطيبين في رواياتهم وكتاباتهم كأنهم أقرب الناس إلى الغباء وسخافة العقل. على أنه في الحياة العملية لا يشترط أن يكون للإنسان رأس لينة غبية لكي يتجنب القلب القاسي. بل يمكنه الجمع بين الرأس الحكيمة، والقلب الرحيم الشفوق في إنسان واحد. وفي هذا يقول رسول المسيحية: «أيها الإخوة: لا تكونوا أولاداً في أذهانكم، بل كونوا أولاداً في الشر. وأما في الأذهان فكونوا كاملين».

وقد كانت حياة الرسول مصادقة لأقواله. فقد جمع في حياته الغيرة والمعرفة، الإيمان الثابت والرأي الحصيف، البراعة في الأخلاق وحسن التدبر. كان بسيطاً مخلصاً في إيمانه، وحكيماً حصيفاً في حياته. ومثل هذا الإنسان قد يساء فهمه، فتحسب بساطته نفاقاً ورياءً، وتحسب حكمته مكراً ودهاءً، وتحسب براءته تظاهراً واصطناعاً. وما أكثر من يسيء العالم فهمهم، لأن أحكام الناس ناقصة وشريرة.

والمسيح مثلنا الأعلى في هذا المضمار، كما في غيره. فهو قد جمع النقيضين في نفسه: الحكمة الفائقة، وطهارة القلب. هو الإنسان الكامل، الفائق في حكمته، السامي في بساطته. هو القوي الرفيق، الصارم الرحوم، عميق في طبيعته، جذاب في مظهره. وطهارة القلب. وكثيراً ما يسمح أهل العالم للحية أن تبتلع الحمامة. وكثيراً ما يظفرون بالنجاح والفلاح حين تنقصهم وخزات الضمير وتأنيبه، ولا تقض مضاجعهم مشكلة التوفيق بين البساطة وبين الحكمة. وحسبهم أنهم يقضون على المشكلة بإبعاد أحد العنصرين من حياتهم العملية.

وفي شؤون الحياة العامة، وفي السياسة والتجارة، وفي كل ناحية من نواحي النشاط الإنساني، يبدو أمثال هؤلاء أنهم قد بلغوا قمة النجاح، ونالوا منتهى الإرب. وقد ينظر إليهم الرأي العام، إما رهبة أو رغبة، كأنهم ذهب مصفى. وقد يمضي زمن طويل قبل أن يكشف أمرهم، ويعرف الناس أن ما زعموه ذهباً ليس إلا معدناً رخيصاً دنيئاً. ولكن الزمن بالمرصاد لأمثال هؤلاء. وأنك لواجد إنساناً يسخر من بساطة الرجل البسيط الساذج، الذي يحتقره، ويهزأ من وداعة الحمامة وبراءة الطفل، ولكن أحداث التاريخ المتقدم والمتأخر قد أثبتت لنا أن أهل المكر والحصافة والبصيرة يعثرون في الحفائر التي تحتفرها بصائرهم المفكرة الماكرة. إن الذكاء المجرد موهبة قاتلة، والإطماع المجردة تستنزل النقمة الإلهية. ورأس الثعبان يسحقها قدم الطفل أحياناً. ألم تسمع عن أناس حالفهم التوفيق والثراء والجاه بفضل ذكائهم ومكرهم ودهائهم، ولكن سرعان ما قلب لهم الحظ ظهره، فبات نجاحهم خسارة ساحقة، تركت وراءها حياة جرداء فقيرة، وأخلاقاً ضامرة مفلسة، ونفساً جائعة موحشة. يجب أن نذكر أن حكمة الثعبان المجردة خطر داهم على كل إنسان.

على أن المسيح أراد أتباعه أن يحفظوا التوازن. فهو لم ينظر إليهم كذئاب يجب أن تتعلم من الأغنام، ولا كحيات تتعلم من الحمام. بل أرادهم على نقيض ذلك. أراد أن يحذرهم من الاختلال في التوازن، وأن يبصرهم بالخطأ في إغفال الحكمة والبصيرة وحسن التدبر وإصالة الرأي، وهذه كلها لازمة للأخلاق والعمل على السواء. لقد حثهم على اجتناب البساطة الحمقاء، والثقة العمياء، والتهور الطائش، وانتظار المستحيل.

الدين ليس شعوذة.

وليس هذا تناقضاً في الشخصية الواحدة، بل هو مظهر للكمال الإنساني ... ربي، اجعلنا حكماء .. وبسطاء، في آن واحد.