العودة الى الصفحة السابقة
كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن الله؟

كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن الله؟

القس. جون نور


جواباً على السؤال: «كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن الله؟» يجيب الكتاب المختصر لأصول الإيمان: «إن المسيح ابن الله صار أنساناً باتخاذه لنفسه جسداً حقيقياً ، إذ حُبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم العذراء، ووُلد منها ولكن دون خطية».

خُلق الإنسان، خلافاً لكل الحيوانات، على صورة الله، وأعطي طبيعة روحية وعقلية ونفساً حية. يقول الرسول بولس إن الله «ليس بعيداً عن كل واحد منّا، لأننا به نحيا ونتحرك ونُوجد»(أعمال الرسل 27:17، 28). ومع أنّ العنصرين الإلهي والبشري متميزان وأحدهما عن الآخر، فهما ليسا أجنبيين أحدهما عن الآخر، وليسا أيضاً متضادّين أو متعارضين. فالإنسان هو شرارة من نار عظيمة، أو إناء فارغ بحاجة لأن يمتلئ من النبع غير المحدود، لذلك فلا معنى لوجوده سوى في صلته بالله. وبما أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، أعطي سلطة على مخلوقات وموجودات الأرض.

إذن الترابط بين العنصرين الإلهي والبشري هو من متضمنات ونتائج خلق الله للإنسان. وبما أن الإنسان خُلق على صورة الله، فإن كلمة الله الأزلي أمكنه وهو كامل الإلوهية أن يصبح ابن الإنسان، ذلك لأن الإنسان هو بالطبيعة ابن الله.

لم تكن عملية التجسد غاية في حد ذاتها، بل كانت وسيلة لغاية، وهي خلاص البشر، لأن الإنسان بسقوطه في خطية العصيان وعدم الثقة في قول الله قد فصل نفسه عن الله، وأفقد نفسه كل القدرة على تدبير خلاصه بنفسه. لهذا السبب أخذ الله على نفسه مسئولية خلاص الإنسان. ومن أجل ذلك حدث التجسّد. فالله الذي تجسد في جسم بشري أخذ مكان الإنسان تجاه متطلبات الشريعة والعدالة الإلهيتين. ولأنه إله يمكنه أن يعطي قيمة غير محدودة لذلك الألم والموت. «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت… إبليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية… من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء، لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله، حتى يكفّر خطايا الشعب»(عبرانيين 14:2-17).

وبما أن النص الذي أورده الوحي الإلهي في رسالة الرسول بولس إلى فيلبي 5:2-11 هو الأكثر وضوحاً في عقيدة التجسد، يشير هذا النص أن المسيح «كان في صورة الله»، لكنه «أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس».وقد وردت في رسائل الرسول بولس الموحى بها من الروح القدس إشارات أخرى لموضوع التجسد، (2 كورنثوس 9:8): «ربنا يسوع المسيح… من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره». وفي غلاطية 4:4 يقول: «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني». وفي كولوسي 19:1 يقول الوحي الإلهي عن المسيح: «… فيه سر أن يحل كل الملء». وفي 9:2 من نفس الرسالة يقول: «فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً».

المسيح إذن، في ولادته من امرأة أخذ لنفسه طبيعة بشرية. ومع أنه بقي على سموّه الإلهي إلاّ أنه صار إنساناً حقاً، فإن حلول «كل ملء اللاهوت» في جسد المسيح يعني أن الله لبس لباساً جسدياً… وكل من يتطلّع إلى يسوع المسيح يرى بدون شك جسداً وإنساناً، ولكن في المسيح نرى الله بالذات، بكل كمال لاهوته في لباس إنساني. يسوع المسيح هو إذن «الله ظهر في الجسد» (تيموثاوس 16:3).

لم تكن غاية الله من التجسد أن يوفر الفداء لبني البشر فحسب، بل كانت الغاية أيضاً أن يعلن عن ذاته للبشر بصورة أكثر كمالاً مما أوضحه كل الأنبياء. في فترة العهد القديم كلّم الله البشر بواسطة الأنبياء، كاشفاً لهم شيئاً عن طبيعته وعن حالة الإنسان الخاطئة التعيسة، وأيضاً عن مخططه الإلهي للخلاص. لكن فترة العهد الجديد التي نعيش فيها، تتميز بأنه في المسيح جاء الله شخصياً، وفي شخص المسيح وعمله أعطى الله للبشر وحياً عن نفسه وعن مخطط الخلاص. فالإله الأكبر العظيم الذي خلق هذا العالم جاء فعلاً إلى العالم وعاش بينه. هذا هو سرّ التجسد: أنّ البشر بأعينهم المجردة رأوا من هو في الحقيقة الله بالذات.

المسيح هو نهاية وكمال الوحي الإلهي للبشر، «الله لم يره أحد قط» (يوحنا 18:1) لكن في المسيح، الله الذي هو الروح غير المحدود، كشف عن نفسه للبشر في كونه قد صار على هيئة البشر المحدودة، حتى أنه في استطاعة البشر المحدودين أن يدركوه في نطاق قدرتهم المحدودة. وعندما دخل المسيح في تلك العلاقة الحيوية الشخصية مع الطبيعة البشرية أضفى عليها بركة لا تُحصى، وذلك نتيجة لتداخل اللاهوت فيها عبر عملية التجسد. وبهذا فإن الطبيعة البشرية أصبحت ذات مكانة أسمى من مكانة الملائكة نفسها، لأن الله لم يختر أن يقترب بمثل هذه العلاقة الشخصية الحميمة مع أي من خلائقه سوى مع بني البشر. ففي التجسّد وُلد الله كطفل في بيت لحم، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة استمر ذلك الوصل بين الله والطبيعة البشرية، بصورة بدت فيها الطبيعة البشرية واضحة جلية.

ولا يمكن المغالاة في تقدير أهمية عقيدة التجسد المسيحية، فإن صحة واستقامة المسيحية كالدين الفدائي والخلاصي الموحى به من الله تثبتان أو تسقطان مع هذه القعيدة بالذات. ولعل أوضح بيان لهذا الواقع هو ما ورد في رسالة يوحنا الأولى، والتي أوحى بها في وقت تزايد فيه عدد المرتدين وناكري الإيمان، وقد كان القصد منها ترسيخ إيمان المؤمنين ضد الضلالات التي انتشرت بكثرة وشراسة. أما إحدى تلك الضلالات الرئيسية فكانت ضلالة نكران تجسّد المسيح، لذلك لم يصر يوحنا على الاعتراف بحقيقة أن يسوع قد أتى إلى العالم بالجسد فحسب، بل أنه جعل من هذه الحقيقة أساساً من أساسات الإنجيل يقول: «كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم» (1 يوحنا 3:4)، ثم يضيف قائلاً: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله… من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة… ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية»(رسالة يوحنا الأولى 1:5-20).