العودة الى الصفحة السابقة
حامل الحق وحامل الزيف

حامل الحق وحامل الزيف

القس. جون نور


عندما اختار المسيح تلاميذه من الناس العاديين أراد أن يعلمنا أنه من المستحيل فصل الحق عن الإنسان. فالحق دون إنسان مستحيل التطبيق. إننا كثيراً ما نتصور أن الحقائق الإيمانية يجب أن يحققها الإنسان، كأن هذه الحقائق برامج، ونتصور الإنسان كمبيوتر، ونتناسى الأبعاد الإنسانية والفكرية لكل فرد مخلوق، وإختلاف البشر في قدرتهم على التلقي والهضم والإبداع. ولذلك فقد رفض المسيح أن يدين الإنسان أخاه ويحكم عليه - كالله - بالمروق أو الصلاح دون استماع إليه وتقديره، لأن الإنسان عندما يدين ينظر إلى جانب واحد فقط هو الحق في سموه، ويقيس عليه الإنسان الآخر. أما الله فعندما يدين فهو ينظر إلى سمو الحق، وإنسانية الإنسان. فالحق يحتاج لأشخاص يؤمنون به. والأشخاص يحتاجون لحق يعيشون له. فمن المستحيل فصل الحق عن الإنسان.

إن مشكلة حاملي الحق اليوم أنهم يقدمون صلب المسيح كأفكار وكلمات. ولكن هذا الحق من المستحيل قبوله، بمجرد كلمات أو منطق أو عقل. إن هؤلاء في حاجة لأن يتعلموا كيف يجسدون الحق في حياتهم، فيصل إلى الناس بسهولة وسلاسة. فالإنسان ليس في حاجة لأن يملأ ذهنه بالأفكار، بقدر ما هو في حاجة لأن يرى أفكاراً متجسدة تسير على قدمين.

الإنسان وإساءة استخدام الحق:

لا شك أن هنالك كثيرون من البشر مخلصون في حمل الحق. لكن هذا لا ينفى أن هنالك عدداً من البشر أساءوا استخدام الحق، فلبسوا ثيابه واستخدموه لتحقيق أغراض خاصة، مثل مكسب مادي أو اجتماعي، وأضلوا خلفهم الكثيرين. ترى كيف نتعرف على هؤلاء ونكتشفهم؟! هذا ما يعلمه لنا السيد المسيح عن كيفية التفرقة بين حامل الحق ومزيف الحق، أو كيف نكتشف كذب المعلم.

يقول السيد المسيح، إننا نكتشف كذب المعلم من كذب رسالته، فيقول: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة). وأيضاً (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. أذهبوا عني يا فاعلي الإثم).

فمقياس صحة التعليم هو الكلمة المقدسة الموحى بها في العهدين القديم والجديد. وإذا أردت أن تمتحن صدق معلم من المعلمين، فامتحن ما يقوله مع الكلمة المقدسة: هل يسير في الطريق الذي رسمه الله للبشر؟ هل تتطابق كلماته مع الوحي المقدس؟ هل يتوافق مع النغم الإلهي المتصاعد؛ من كلمة شفهية إلى مكتوبة إلى متجسد؟ هذا هو السؤال وهذا هو المحك.

ونكتشف كذب المعلم أو النبي من افتقاده للمعجزة الحقيقية. فكل معلم يأتي بكلام الله، يؤيده الله بمعجزة حقيقية شكلاً وموضوعاً. يقول السيد: (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط). وهؤلاء أنبياء صنعوا معجزات لكنها غير حقيقية. فقد قاموا بالمعجزة كشكل خارجي، أو بمعنى آخر استدعوا المعجزة من خارجهم كالحواة. لكن معجزة النبي الحقيقي هي التي تنبع من داخله، أي يكون هو - كشخص - معجزة في ذاته.

فأي نبي لا بد وأن يكون معه الجديد عن جوانب شخص الله السرمدي، مع إظهار هذه الجوانب للإنسان: إظهار الله في عدالته ومحبته، ومعرفة الله بأكثر قرب ولمعان. فالله، كما قدمه موسى، كان أكثر وضوحاً مما قدمه إبراهيم. وكان إيليا أوضح من موسى. ثم جاء إشعياء ليعلن جانب الألم والأحاسيس والمشاعر في الله، فكان أكثر وضوحاً. ثم جاء المسيح إعلاناً كاملاً نهائياً. لذلك فمقياس أي نبوة هي مقدار ما تقدمه من جديد عن الله في علاقته بالإنسان.

أما الثمر الثاني فهو نوعية التابعين. فإذا أردت أن تدرك الفرق بين النبي الآتي من الله ومن يدعي النبوة، فانظر إلى التابعين، فالتابعون هم ثمرة النبوة: فالرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى اتساع الأفق وإلى الثقافة والتحضر...تدعو إلى الحب والأمانة. الرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة، فالمرأة لها مكانتها كإنسان عادي. قل لي ما هي مكانة المرأة في أي مجتمع، أقول لك مدى تحضره أو تخلفه. إن الرسالة التي تفصل بين الدين والحضارة، بين ما هو روحي وما هو زمني، بين الطهارة الخارجية وطهارة الفكر، لا شك أنها رسالة إنسانية وليست إلهية. والرب يسوع يقول: (من ثمارهم تعرفونهم)، أي من مستوى الأتباع تعرف المعلم، ومن مستوى الشعب تعرف القائد، لأنهم ثمرة يديه. الشجرة الجيدة تصنع أثماراً جيدة.

فالرسالة التي تقف شامخة رغم كل محاولات الهدم، رسالة صادقة. الرسالة التي لا تخشى الانتقاد والتقييم المستمر، في العهود المختلفة، هي رسالة مؤسسة على الصخر. فالرسالة الحقيقية لا تحتاج إلى حماية بشر في مواجهة النقد والتقييم. إن رسالة المسيح لها ألفي عام، تعرضت فيها وما زالت - لكل معاول الهدم والانتقاد، حتى في البلاد المسيحية، نجد الإذاعة والتليفزيون والصحافة تترك المجال بكل حرية، لمن يريد أن ينتقد المسيحية أو الكتاب المقدس، لكن يبقى في النهاية التعليم الصحيح، فلا يصح إلا الصحيح، كما يقولون. يقول المسيح: (كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل بني بيته على الصخر. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط. لأنه كان مؤسساً على الصخر. وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها أشبهه برجل جاهل بنى بيته على الرمل. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط. وكان سقوطه عظيماً).

إن كنت تريد أن تكتشف صدق رسالة أو نبوة، أتركها للناس ينتقدونها ويفسرونها ويحللونها فإن صمدت للنقد واستطاعت أن تقاوم، تكون رسالة صادقة من الله لا تحاول أن تحميها برجال أو مال أو سلاح، فالرسالة الصادقة قوتها في الحق الذي تحتويه.

أخيراً يمكن أن نكتشف صدق النبي من نوعية السلطان الذي يتمتع به.

لقد بهتت الجموع من تعليم يسوع لأنه كان يتحدث بسلطان وليس كالكتبة. والسلطان هنا لم يكن سلطان قوة، يرغم بها الناس على سماعه، ولا سلطان نفوذ أو كهنوت، فيسوع كان إنساناً بسيطاً. لم يكن من الأسرة الكهنوتية، ولم يكن زعيماً يحمل سلاحاً، لكنه كان يحمل سلطان الكلمة التي يتفوه بها: فهي كلمة الله. يقول المسيح: (خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني). إن يسوع يعرفنا ولذلك له سلطان علينا.