العودة الى الصفحة السابقة
المسيح والسيف

المسيح والسيف

جون نور


عندما نفكر في ملامح الإنسان المسيحي المؤمن - حسب تصورنا - نستطيع القول - إنه ذلك الإنسان المسالم جداً، المتقوقع على ذاته، الذي يترك حقه للآخرين طلباً للسلامة... الذي له علاقة فريدة قوية مع الله، ولا يحب الظهور ، ويحفظ نفسه من العالم؛ من الموسيقى والمسرح والفن بوجه عام، يقضي أوقاتاً طويلة في التعبد والصلاة ودراسة كلمة الله، ويترك لله إدارة شئون حياته. يسلم له كل شيء، وقاعدته في الحياة أن الله يجعل كل الأشياء تعمل معاً لخيره، ودون تدخل مباشر منه.

ورغم أن هذه الصورة تبدو جميلة إلى حد ما، إلا أنها ليست الصورة التي يريدها المسيح من تابعيه. فهي الصورة التي إعتقد البعض خطأ أنها رؤية المسيح للمؤمن، بينما هي ذات الصورة التي رفضها المسيح بقوله: {لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والإبنة ضد أمها والكنة ضد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب إبناً أو إبنة أكثر مني فلا يستحقني. ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني. ومن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلي يجدها}.

وهنا وبكل وضوح يعلن المسيح حاجته لإنسان قوي قادر على إتخاذ أصعب القرارات في حياته، والصراع مع الذات والمجتمع. إنه يقول - بصراحة ووضوح - جئت لأفرق وجئت بصليب وجئت بموت. والصليب هنا معناه الألم الإختياري، أي الألم الذي يختاره الإنسان بمحض إرادته ليحقق من خلاله أهدافاً عليا. وهذه الأمور لا تحتاج إلى إنسان ضعيف غير ناضج، غير قادر على المعاناة، بل يحتاج إلى محاربين أشداء.

إن المسيحية لا تعني أبداً الخنوع والإستسلام، لكنها تعني السلام من موقع القوة. عندما نبتعد عن الشر فليس هذا جبناً، وعندما نصارع لأجل الحب ونقاتل لأجل السلام فهذا ليس شراً. والمسيح في كلماته يحدد ملامح الإنسان المؤمن الجدير بأتباعه: إنه ذلك الإنسان الذي لديه إستعداد للصراع مع أقرب الناس إليه. إن السيف الذي يقدمه المسيح هو كيف يتخذ الإنسان قراراً واضحاً حاسماً مع كل علاقة تعطله عن علاقته بالله. والمسيح يرفض الإنسان الضعيف، حتى لو كان هذا الضعف تجاه أسرته: {جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والإبنة ضد أمها...}. هناك زوجات غير مقتنعات بحياة أزواجهن مع الله أو العكس... أو آباء مع أولادهم أو العكس... وهكذا. والإنسان القادر على إتخاذ قرار وموقف واضح ومحدد مع أقرب الأحباء، لهو إنسان ناضج له أولويات واضحة، قادر على الفصل بين الفكر والعاطفة، ولديه القدرة على إتخاذ قراره في الوقت المناسب وبالصورة المناسبة. إنه ليس بالإنسان المستكين الذي يمسك العصا من منتصفها ويرضي جميع الأطراف. وليس المقصود هنا أيضاً أن يقطع الإنسان علاقته مع كل المخالفين له أو المختلفين معه، لكن المطلوب هو أن يوضح الإنسان إتجاهه وهدفه كالسيف، حتى لا يكون بلا لون أو طعم أو رائحة.

والمؤمن الأمين - في نظر المسيح - هو ذلك الذي يكون لديه إستعداد للألم من أجل قيم سامية. والألم لا يفرض على الإنسان السلبي بل على الإيجابي الذي يتقدم ويحتك بالآخرين، ويجاهد لأجل تحقيق ما يفكر فيه... فالألم هنا إختياري. فمثلاً، جرب بعض العلماء الأدوية التي إكتشفوها على أنفسهم معرضين حياتهم للخطر، لكي يحققوا هدفاً إنسانياً سامياً، هو القضاء على مرض ما وتحرير الإنسانية منه.

إن كل باحث عن الحقيقة يتألم للوصول إليها. والذي لا يهمه البحث عن الحق لا يتألم. وبقدر ما يكون الإنسان ناضجاً وقادراً على الفهم وله موقف من الحياة، تكون آلامه التي يحملها بإختياره أكبر وأكثر ، لأنه {ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان}. والإنسان المؤمن - في فكر المسيح - ليس فقط الذي لديه إستعداد للألم فقط، بل للموت أيضاً في سبيل ما يؤمن به. فهو يقول {من وجد حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها} فالذي يبحث عن الحياة ويحرص عليها يجبن من الموت، لن يحقق شيئاً يذكر ولن يعيش حياة تستحق أن تعاش، بل تكون حياته أقرب إلى الموت، فالذي يجد حياته يضيعها، أما الذي يضع رأسه على كفه ويضيع حياته لأجل أهداف سامية، فسوف يستمتع بحياته لأنه حقق بها أشياء. وحتى لو مات لأجل الهدف، فحياته ستستمر في الأهداف التي حققها. لقد أحبت لليان تراشر شخصاً ما حباً جماً، لكن كان الهدف الذي وضعه الله أمامها هو أن تأتي إلى مصر، وتؤسس ملجأ للأطفال الفقراء وصارعت مع حبيبها الذي رفض أن يأتي معها إلى مصر. وفي ليلة الوداع بكت كما لم تبك من قبل، وكتبت في مذكراتها بعد ذلك: في هذه الليلة ماتت لليان تراشر. إن موت لليان عن هذا الحب جعل حبها للأطفال حباً متدفقاً لا ينضب.

إن الذي يضع أمامه أهدافاً عظاماً عليه أن يموت عن أشياء يحبها، لكي يحقق هذه الأهداف. إن الفرق بين مؤمن وآخر هو في عدد المرات التي ماتها ليحقق أهدافاً قبل أن تنتهي حياته بالموت المادي. والإنسان الذي يصارع ويتألم لأجل أهداف ويموت عن أشياء يحبها لتحقيق الهدف - يقول المسيح - يكون قادراً على الحياة. فالحياة لأجل هدف، أصعب بكثير من الموت في سبيل مبدأ. فربما نموت لأجل هدف لم يتحقق بعد، لكن أن نحيا لكي نحقق هذا الهدف، فهذا تكلفته أصعب من الموت. إنه يحتاج إلى فكر وجهد ووقت، إلى تفان وأمانة وصراع حتى آخر العمر، بل يحتاج إلى أن يقامر الإنسان بكل حياته لأجل الهدف: {من أضاع حياته يجدها}. فهي مقامرة لكنها مقامرة محسوبة.

هذه هي ملامح الإنسان المؤمن الذي يريده المسيح. إنه ليس بالإنسان الخانع المستسلم القانط. بل ذلك الإنسان الذي يعيش الصراع مع الذات ومع إتخاذ القرار... إنسان يتألم لأجل هدف، لديه إستعداد للموت وقدرة على الحياة لتحقيق ما يفكر فيه. هذه الصورة المتكاملة التي يرسمها المسيح لنا، هي صورة أي إنسان يريد أن يتبعه. والسؤال هو: أين هذه الصورة من التابعين اليوم؟!