العودة الى الصفحة السابقة
كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا أثبتوا في محبتي

كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا أثبتوا في محبتي

جون نور


ما أعظم هذه العطية! وما أسمى المقياس الذي أحبنا به المسيح!!!

كما أحب الآب الإبن، هكذا أحبنا الإبن، ومحبته لنا هي سر إلهي، أسمى من أن ندركه أو نحد مداه مهما بذلنا من جهد. إن الروح القدس وحده هو الذي يستطيع أن يسكب فينا هذه المحبة بغزارة بقوته الغالبة المستمرة، والمسيح نفسه ينبغي أن يسكن في القلب بروحه القدوس، وحينئذ ندرك ونمتلك في داخلنا هذه المحبة الفائقة المعرفة.

(كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا). ألا يجدر بنا أن نقترب من شخص المسيح الحي، ونثق فيه، ونسلم كل شيء له، لكي يسكب فينا محبته؟. وكما أدرك هو محبة الآب له وفرح بها في كل حين، هكذا نحن أيضاً نحيا في جو الإحساس الدائم أنه كما أحب الآب المسيح فإنه بنفس الكيفية يحبنا نحن، ورباط المحبة الذي يربط الكرمة الحقيقية بالآب هو نفسه الذي يربط الكرمة بالأغصان. إن الكرمة وحدها هي التي ينبغي أن تهب الغصن النمو والثمر عن طريق سريان عصارتها فيه، والمسيح نفسه ينبغي أن يسكن في القلب بروحه القدوس، وحينئذ ندرك ونمتلك في داخلنا هذه المحبة الفائقة.

والثبات في محبته يعني أننا نتخلى على كل شيء آخر، وأن نشغل مكاناً واحداً ونبقى فيه. فرغ ذاتك من كل شيء، وضع قلبك على يسوع وعلى محبته، وسوف توقظ تلك المحبة إيمانك وتقويه وتثبته. إشغل نفسك بتلك المحبة. تأمل فيها. إنتظرها. وفي وسعك أن تتأكد أنها سوف تصل إليك، وسوف تقيمك بقوتها، وتضمك إلى نفسها، وتصبح مسكنك ومكان إقامتك.

وما هو شرط الثبات في محبته؟ ليس هناك إلا شرط واحد وهو: {إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي}. لعل البعض يتساءلون قائلين: {وكيف يمكننا أن نحفظ وصاياه؟! هذا أمر صعب، بل مستحيل}! نعم، من الصعب أن نحفظ وصايا أي شخص ما لم نحبه أولاً، وما لم نبادله حباً بحب. ما أسهل أن يعمل الإبن إرادة أبيه متى توفرت في قلبه المحبة لأبيه. وما أسهل أن تطيع الزوجة زوجها، ويلبي كل فرد منا طلبات صديقه طالما توفرت المحبة. نعم، إن الوصايا التي تبدو ثقيلة أمام أهل العالم هي متعة ولذة للمؤمن الذي امتلأ قلبه من محبة يسوع.

وإلى أي مدى ينبغي أن نحفظ وصاياه؟ يجيب المسيح على هذا السؤال بالقول: {كما إني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته}. أي بنفس الكيفية وبنفس الطريقة التي بها ثبت هو في محبة الآب، بحفظ الوصايا، بالطاعة الكاملة. لقد كان المسيح مشابهاً لنا في كل شيء حتى نكون نحن أيضاً مشابهين له في كل شيء. في حفظه لوصايا الآب، وفي إطاعته الكاملة له، وفي تسليمه الكامل لإرادته ومشيئته، وفي ثباته في محبته ثباتاً دائماً ومستمراً.

على أن محبتنا لا يجب أن تقف مكتوفة اليدين، بل ينبغي أن تعلن عن ذاتها وتمد يدها للآخرين لتوصل إليهم نفس المحبة التي أخذتها من الإبن، وأخذها الإبن من الآب. {هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم}. بنفس الكيفية وبنفس الأسلوب، وبنفس الجدية، وبنفس العمق، وبنفس مستوى التضحية. {كما أحببتكم} وليس أقل من ذلك. ولكن هل يمكن أن نحب بعضنا بعضاً كما أحبنا المسيح؟. نعم، فطالما كان الغصن ثابتاً في الكرمة فإنه يستطيع أن يحيا حياة الكرمة نفسها وأن يأتي بثمار الكرمة نفسها، ليس من ذاته، أو بعمله وإجتهاده، بل بمجرد ثباته في الكرمة وسريان عصارتها فيه بصفة مستمرة. وهكذا المؤمن الثابت في محبة المسيح، تسري فيه تلك المحبة عينها للآخرين. وهكذا كما تكون الكرمة كذلك تكون الأغصان، حياة واحدة، وروح واحد، وطاعة واحدة، وفرح واحد، ومحبة واحدة.

لقد برهن المسيح على محبته لنا بصورة عملية عجيبة تفوق العقل البشري، ليس بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق. {ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه}. وهكذا أيضاً ينبغي أن تكون محبتنا للأخوة محبة عملية لا كلامية فنضع أنفسنا من أجلهم.

إقرأ الأصحاح الثالث عشر من رسالة الرسول بولس الأولى إلى أهل كورنثوس لتعرف أوصاف المحبة الإلهية التي أحبنا بها المسيح والتي ينبغي أن نحب بها الآخرين. فمن الناحية السلبية هي: لا تحسد، ولا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، ولا تسقط أبداً. ومن الناحية الإبجابية فهي: تتأنى، وترفق، وتفرح بالحق وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء.

حقاً أنها محبة فائقة المعرفة، بلا حدود، ولا قيود، ولا تحفظات، ولا شروط، محبة لا نهاية لها.

إنها محبة تتسع للعالم أجمع، لكل الخليقة، منذ آدم الأول حتى أخر إنسان يوجد على سطح هذه الأرض، ملايين الملايين التي لا تعد ولا تحصى.

إنها محبة تصل إلى عمق أعماق القلب والنفس، وفي وسعها أن تنتشل من عمق أعماق الخطية، وتخلص من عمق أعماق الجحيم.

إنها محبة غير محدودة. فهي ترفع الخطاة البائسين إلى السماويات وتجلسهم مع المسيح الذي أحبهم. وترفع البشر المساكين لتسكنهم في حضرة النور الذي لا يدنى منه. إنها تسمو بهم إلى أعلى مستوى، وتهبهم أسمى مركز يمكن أن يصل إليه إنسان.

إنها محبة تبذل نفسها لأجل أناس غير مستحقين لأية محبة! محبة تحب حتى الأعداء!

إن هذه المحبة قوية وقادرة أن تسندنا، وتهزم أعداءنا وتذلل كل الصعوبات التي قد تعترض طريق سياحتنا في برية هذا العالم، وعندئذ يحق لنا أن نهتف قائلين: يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا..