العودة الى الصفحة السابقة
القضاء والقدر أو هل الإنسان مسير أم مخير !؟

القضاء والقدر أو هل الإنسان مسير أم مخير !؟

جون نور


هل يعتني الله بالإنسان وهل يتدخل في حياته أم يتركه لمصيره؟

أغلب الظن أن تلك أسئلة لن تكف العقول عن طرحها في كل المسيرة البشرية، ولن ترضى لها إجابة محددة بل أغلب الظن أن كثيرين لا يرغبون أن يعثروا على إجابة واضحة، لأن الإنسان في أعماقه السحيقة يتمنى لو أنه غير مسؤول عن حياته وعن أعماله، فالحرية عبء ثقيل يرزح تحته الضمير البشري الذي لا سلطان له على غرائز الإنسان أو على أنانيته، إن القول بأني لا أدري يريح الكثيرين، إنه الهروب الكبير الذي يسعى إليه من لا يرغب في أن يحمل الحياة رسالة وأمانة وإنما يرغب في أن يجعل منها لحظة متعة خالية من المآسي والكوارث.

أحب الله الإنسان، فخلقه حراً، باراً، ومن حب الله للإنسان الحر، تركه بقدر إيمانه بخالقه والتزامه بشرائعه،تركه يقرر رفض الإيمان ورفض الشريعة، وعلى الإنسان أن يتحمل تبعات قراره واختياره…

ولكن الله الحب والنور والعدل، لم يترك الإنسان الذي رفض شريعته التي زرعها في صميم كيانه وأفكاره وأعصابه ونبضاته، لم يترك الإنسان الشرير والفاسد، فحاشا لله أن يتخلى عن إبداعه، وبعناية إلهية فائقة رافق الله الإنسان عبر مسيرة الزمن لأنه هكذا أحب الله العالم، لكن بقدر حبه، بقدر عدله، بقدر رحمته، احترم الله حرية الإنسان وكيانه الروحي والأخلاقي…

كل إنسان حر في أن يكون مؤمناً، أو أن يكون غير مؤمن… كل يتحمل تبعات إيمانه أو عدم إيمانه، وكل يجني ثمار إيمانه، أو ثمار عدم إيمانه، والله بعلمه الكامل والشامل، لا يعيق حرية الإنسان وقراره واختياره، وعلم الله ليس فيه ماضي أو حاضر أو مستقبل، علم الله دائم أبدي، فقولنا بأن الله يعرف الماضي، ويعرف المستقبل، تعبير بشري قاصر، ليس في الله ماضي أو مستقبل، الله دائم الوجود، كائن من الأبد وإلى الأبد، فلذلك علمه الأبدي بمستقبل الإنسان لا يعني أن الله حدد مصير ذلك الإنسان ولا يعني أن الله. يجهل هذا المصير، وإنما أقول إن كل حدث، وكل همس، في الماضي بالنسبة للبشر، وفي الحاضر والمستقبل بالنسبة للبشر، ذلك كله معلوم في علم الله الذي لا يحد ولا يقاس ولا يعيق حرية وإرادة ذلك الإنسان.

ما أسهل على الإنسان أن يتواكل، ويلقي بكل مسؤولية على الغيب أو على القضاء والقدر.

حاشا لله أن يكون عدواً للإنسان، فأين صغر الإنسان من عظمة الله، ولكن الإنسان يعادي ذاته إذ ابتعد عن مصدر حريته ويعادي مجتمعه حين يخاصم نبض الضمير في أعماقه.

لقد شاع بين الناس أن الإنسان لا حول له ولا قوة، وإنما المجتمع يجعل منه مجرماً، ولست أدري لماذا يجعل المجتمع منه عالماً من علماء الذرة. أين الحدود الفاصلة بين تأثير المجتمع على الفرد، وبين قدرة الفرد على الرؤية واستشعار الخطر والذود عن إرادته وحريته؟ هل صحيح أن الإنسان قد يصل إلى أن يتحول إلى أداة - مجرد - أداة - لا يملك رداً أو قوة أو فاعلية أمام وقائع الحياة وأمام الظروف التي تنسج حوله خيوطها، فيفقد بذلك كل مسؤولية عن أعماله!!

هل أنت مسير أم مخير ام تقول انه القضاء والقدر؟؟

إن الله قد زرع شريعته في قلب الإنسان، وكرامة الإنسان في الخضوع لها وهي التي تحاسبه وتدينه، وله حرية الإرادة في أن يحطمها ويحطم بذلك ذاته أو أن يصونها فيصون بذلك أمنه الداخلي وأمن المجتمع البشري.

وتبعاً لذلك فالإنسان ليس حراً في اختيار مولده وموته، ليس حراً في اختيار ما ورثه من جسد عن آبائه وأجداده، ليس حراً في أن يعيش أو لا يعيش على الهواء والماء والخبز، ليس حراً فيما ورثه من صفات وفيما يورثه لأبنائه من صفات، ليس حراً في أن البحر يغرق من لا يعرف العوم، وأن السقوط من عال يقتله، وفي أن النار تحرق، وأن السم الزعاف يقتل، هذه كلها قوانين خلقت هكذا لا حرية فيها، لأنها من اختصاص الخالق، ولكن الخالق الذي أعطى السيادة للإنسان على المخلوقات، أمده بقوة العقل ليتعامل معها، أعطاه قوة العقل، فالبحر لا يغرق من تمرس على العوم ومن درس علوم البحر، وأدرك أين يكمن خطره، فالباخرة {تيتانك} عابرة القارات، أضخم بواخر عصرها، غرقت في أول رحلة لها لأن جبلاً من الثلج مزق جسدها، خطأ في علم الإنسان، وليس سوء حظ، ليس عمل شيطان أو جن، ليس خرافة أو أسطورة، على الإنسان أن يحترم قانون الخالق، قانون الوجود والطبيعة حتى يعرف كيف يتعايش معها ويسطر عليها… وقل الأمر ذاته عن أعظم الحوادث، وعن التافه منها، عن سقوط طائرة أو احتراق صاروخ، أو اشتعال سلك كهربائي، ليس صدفة، ليس قضاءاً وقدراً ليس سوء حظ هذه خرافات، أو تعبير العاجزين، تماماً كما كان يظن الرجل البدائي إن دق الطبول يسقط المطر، أو أن تقديم ذبيحة للآلهة يهزم العدو، أو أن وضع حجاب على البيت يمنع زحف الثعابين… كلها قوانين وضعها الخالق، وإذا احترمها الإنسان، واكتشف أسرارها وتعامل معها فإن ذلك يصون له حياته، وإذا خالفها إنسان، فعليه ان لاينسبها الى الله…

وهذا النص الذي أسوقه كتب منذ قرابة ألفي عام، نعتبره من النصوص المقدسة التي وصلت إلينا، يعبر عن إنسانية لا تزال تسعى لكي تعيد إلى روحها حال الحرية التي خلقت فيها يقول النص:

{لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون الحق بالإثم. إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم. لأن منذ خلق العالم ترى أموره غير المنظورة وقدرته السرمدية ولاهوته مدركة بالمصنوعات، حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء. وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى، والطيور، والدواب، والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة، لإهانة أجسادهم بين ذواتهم}. (رومية 18:1 - 14)

{وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق}. (رومية 18:1 - 28)

{لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان، كل من يدين، لأنك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك. لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها! ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه. أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه، وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله؟}. (رومية 1:2 - 3)

{لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان. لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون. لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس، متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس. فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم}. (رومية 12:2 - 14)

إن قضية حرية الإنسان، قد حسمت لمن يرجع مصدر الخلق، ومصدر الحياة إلى الله الكائن الأعظم، فقد خلق الله الإنسان حراً، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، حراً في عالمه الأدبي أو الأخلاقي، والروحي، وأمده بطاقة العقل والخيال والوجدان ليحفظ هذه الحرية، ولكن الإنسان بإرادته اختار أن يدمر هذه الحرية، ولا زال حتى عالمنا المعاصر حراً في أن يقيم لنفسه كياناً روحياً قوياً، وحراً في أن يحطم ما تبقى في أعماقه من قيم ومثل.

عناية الله دائمة، لكل قوانين الكون والطبيعة وعنايته دائماً لكل إنسان، وكلما اقترب الإنسان من حب الله، وارتقى في أعماقه وسما بذاته، كلما تدفق النور الإلهي في كيانه، وشعر أكثر بحب الله وبعنايته وحبه ورأفته الإلهية…

وكلما ابتعد الإنسان عن هذا الجهاد الروحي العميق، وقفل باب المعاناة الروحية، مستسلماً بسهولة عيش، وظمأ غريزة، ورغبة مادية، وابتعد عن القوانين الطبيعية التي تفرض عليه أن يسيطر على ذاته وجسده، كلما شعر الإنسان أن الله، عالم بمصيره وبمسيرته يحترم حريته ويترك له أن يتحمل تبعات هذا البعد وهذه الجفوة…