العودة الى الصفحة السابقة
أنتم ملح الأرض أنتم نور العالم

أنتم ملح الأرض أنتم نور العالم

القس. جون نور


كان اليهود يوم ألقى يسوع العظة على الجبل محافظين على حرفية ما جاء في كتبهم المقدسة، متمسكين بأهداب الناموس الذي طوّره الفريسيون، رجال الدين المحافظون، حسب ما تقتضيه ظروفهم، وفسّروه تفسيراً لا يقبله الإنسان العاقل والإنسان الذي يتمتع بحرية الإرادة. كلامهم مُنزل ولا يُسمح لإنسان أيّاً كان أن يطعن فيه أو يشك في صحته، لأنه كلام الله. فأبان يسوع للناس غير ما اعتادوا أن يقبلوه دون تفكير، إنّه من الله لا تشوبه شائبة ولا يعلوه غبار، فنسف بذلك الحصن الذي تحصّن به زعماء الدين المتعظمون الذين أهملوا جماهير الشعب. فازداد الارتباك في النفوس، وتسرّب الشك أيضاً إلى تلاميذ يسوع أنفسهم، فأخذوا يتساءلون كالآخرين: أين ملكوت الله؟ أين كلمة الله؟ أين الزعماء والمرشدون؟ وهل كان هنالك زعماء وموجهون؟ نعم. وبكثرة. ولكن ها هوذا الزعيم والمرشد الحقيقي يظهر على مسرح الأحداث بدعوة جديدة تختلف عن دعوة زعمائهم، ويطلع برسالة إنجيله على الناس، فَتُقلب الأوضاع بسرعة.

ما أشبه عصرنا الحاضر بعصر أولئك الزعماء. فنحن زعماء أو متزعمون وبليّتنا هي في هؤلاء الزعماء والمتزعّمين وبخاصة على الصعيد السياسي. أحزاب وشعارات وخطابات حماسية نارية. وعلى الصعيد الروحي لا وعي حقيقي لنا ولا هدف معين. إننا نشبه مركبة أفلتت عجلاتها. فهل ينطبق علينا قول يسوع: {أنتم ملح الأرض}. {أنتم نور العالم؟}.

الملح يشير إلى تأثير المؤمنين الخفي، لأنّ الملح يختفي في الطعام. والنور يشير إلى تأثيرهم الظاهر، لأن النور يظهر وينتشر. فيراه الناس.

بين الملح والنور أوجه شبه كثيرة منها:

أنّ لا صوت ولا حركة لهما. فالملح في صمته يصلح الطعام. والنور في سكونه يبدد الظلام.

الملح يذوب في الطعام. وكذلك الإنسان، فإنّ إنسانيته تظهر في تضحيته في سبيل الآخرين. وما ينطبق على الملح في هذا المعنى ينطبق أيضاً على النور. فالشمعة مثلاً تذوب لتنير الظلمة.

إن الملح والنور كليهما مؤلم. فإذا وضعنا الملح على الجرح لنمنع عنه الفساد نشعر حالاً بألم حاد. وإذا سلّطنا النور على عين رمداء تألّمت العين وتحولت عن النور. هذا إذا كان الملح صالحاً والنور قوياً. وكذلك وجود المؤمنين في العالم فإنّه أشبه بالقذى في عيون أهل العالم، فلا عجب إذا تجنبوهم أو قاوموهم. أما عمل الملح الخفي فهو مزدوج: إنّه أولاً يحفظ من الفساد. وثانياً يحسن المذاق.

أنتم ملح الأرض

أنتم نور العالم:

لو قال يسوع لهم: {أنتم نور منازلكم} لحسبنا هذا شرفاً كبيراً لهم لا يستحقونه. ولو قال: {أنتم نور فلسطين} لاعتبرناه امتيازاً خطيراً لهم ليس في متناولهم! أما وقد قال لهم: {أنتم نور العالم} فما علينا إلا أن نسكت ونصمت، لأنّ أفكارنا لا تستطيع أن تتسامى إلى هذا الامتياز الرفيع. ولكننا إذا تذكّرنا أنّ يسوع قال لهم: {أنتم نور العالم} بعد أن قال لهم: {أنا نور العالم} (يوحنا 5:9 و 12:8) لزال عنا العجب وانكشف لنا السبب. فليس نورهم ذاتياً، كنور الشمس، بل اكتسابياً كنور القمر.

فعلى رسل المسيح المؤمنين به، أن يكونوا قريبين من شخصه، فيستنيروا بنوره، وبقدر ما يستنيرون، ينيرون، وعليهم أن لا يسمحوا للأرض وحطامها بأن تقف حائلاً بينهم وبين فاديهم. فكما أن الخسوف الطبيعي يحدث عادة إذا توسطت الأرض بين الشمس والقمر، كذلك {الخسوف الروحي} يقع إذا توسط العالم ومادته وعالميته بين المسيح: {شمس البر} وبين المؤمنين به. وعليهم أن يظهروا شخص المسيح وصفاته في خدمتهم، لا أن يظهروا ذواتهم. فإنّ مهمة المؤمنين بالمسيح هي إعطاء أكبر فرصة وإفساح أعظم مجال أمام نور المسيح، لكي ينتشر في العالم. هذه هي الحقيقة التي أبانها بولس الرسول في قوله: {لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب في وسط جيل معوّجٍ وملتوٍ، تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم متمسكين بكلمة الحياة}(فيلبي 15:2 - 16).

وإذا كان رسل المسيح وأتباعه نور العالم، فمن المسلّم به ضمناً أن العالم كان إلى مجيء المسيح في ظلام دامس، فقد كان أعمى عن حقيقة الخطية، والخلاص منها. أعمى عن حقيقة الله، أعمى عن الحياة الأبدية.

إنّ الذين يحملون إنجيل يسوع المسيح إلى الآخرين بأمانة وحب هم {ملح الأرض ونور العالم} في نظر المسيح. كل من يسهم في نشر كلمة الله بإيمان ثابت وعزم صادق وإخلاص حق هو شعاع نور، هو حبة ملح في العالم. وكل كنيسة لا تسهم في هذا العمل ولا تشعر برغبة فيه أو ميل إليه هي كنيسة جامدة ميتة وأعضاؤها جامدون ميتون حتى وإن كانوا أحياء يُرزقون. ولكن الكنيسة لا تستيقظ وتجري فيها عصارة الحياة، إلاّ إذا استيقظت كل عائلة فيها واستيقظ كل فرد في العائلة.

{أنتم ملح الأرض. أنتم نور العالم} شمعة واحدة تنير كوخاً. مئة شمعة تنير قاعة كبيرة. ألف مسيحي ينيرون مدينة، إذا كانوا أنواراً حقيقية. فكن أنت مسيحيّاً حيّاً.

ليكن لك تأثير على المحيط الذي تعيش فيه. ارفع صوتك المسيحي حيث يجب أن ترفعه. أنثر ملحاً على الأحاديث التافهة التي لا طعم لها. لا تقل ليست في كنيستي حياة. أملأها أنت بحياتك. لا تقل كنيستي تحتاج إلى نهضة روحية وإلى إنعاش، أنهضها أنت وأنعشها على قدر ما تستطيع.

استطاع المسيحيون الأولون، على الرغم من قلّة عددهم وقلّة مواردهم المادية وقلة علمهم أن يغلبوا أعظم إمبراطورية. أمام قوة إيمانهم تحطمت قوة الملوك العظام. أمام محبتهم بعضهم لبعض وتماسكهم، انهارت إمبراطورية يوليان الإمبراطور العنيد الذي قاوم المسيح والمسيحيين مقاومة شديدة، فقال في نهاية الأمر مغلوباً على أمره: {لقد انتصرت أيّها الجليلي!}.

كونوا ملحاً للأرض ونوراً للعالم وقودوا الآخرين إلى اختبار هذه النعمة الغنية لتملأ حياتكم وحياتهم.