العودة الى الصفحة السابقة
ماذا قال يسوع؟

ماذا قال يسوع؟

جون نور


في إحدى الجلسات التي ضمت عدداً من المثقفين، فتح باب المناقشة حول مشاكل العصر، وموقف الإنسان المؤمن من التسيب الموجود في المجتمع، والإنحراف الذي يطل برأسه من خلف درج مكتب، أو طرف لسان رئيس عمل، أو من خيوط متشابكة معقدة في الأسرة أو في العمل أو في البيئة المحيطة. وطرحت أسئلة كثيرة، مثل: ما موقف الإنسان المسالم من الإستفزاز المستمر في هذا المجتمع الذي نعيش فيه ، وخاصة أن الصفح الدائم يجعل المستفز يتمادى ويتعامل بإسلوب غير أخلاقي. فما معنى الصفح في مجتمع لا أخلاقي؟! وتساؤل آخر... في مجتمع إستهلاكي أصبح الذي معه القرش يساوي قرشاً.. هل يرهق الإنسان نفسه في العمل على حساب صحته وأسرته وعلاقته بالله؟!...

وكان السؤال الرئيسي في تلك الجلسة : كيف يحاسبنا الله؟!

إن المأساة الحقيقية التي نعيشها هي طريقة فهمنا لله ولعلاقته بنا من خلال وصاياه واتباعنا لها. فنحن نتفق على أن الإنسان يعيش حياة العصيان لله، فهو يعيش حياة الفجور وعدم المبالاة بقوانين وفرائض ووصايا الله التي أعلنها، لكي يحول الإنسان إلى طاعته، ولا شك في أننا نتفق على أن الوصايا الإلهية هي أساس الطاعة. لكننا نتصور أن الله وهو يقدم لنا مجموعة من الوصايا الجامدة والعبادات كالصلاة والصوم والصدقة، يجلس ليراقبنا ولا هدف له إلا إحصاء أخطائنا ومحاسبتنا عليها. وهكذا تحكم الوصية العلاقة بين الله والإنسان، ولا توجد علاقة مباشرة بينهما. فعلاقة الله بالوصية أنه مصدرها، وعلى الإنسان أن يتقبلها، والوصية تربط بين الإثنين، فإن أطاع الإنسان الوصية بحرفيتها دون تصرف منه فهو عبد لله أما إذا حاول أن يفهم روح الوصية وأن يعمل فكره فيها، كان مضاداً لله لذلك يقف العبد أمام الوصية صاغراً، محاولاً تفسيرها وتطبيقها على حالته الخاصة وفي معظم الأحيان يفشل. لقد حاول اليهود تفسير الوصايا العشر في التلمود، وذكروا كل حالة يمكن أن تقع تحت الوصية بتفاصيل غاية في الدقة والغرابة. فهم يحددون المسافة - بالضبط - التي يسيرها المؤمن يوم السبت، ووزن الذهب الذي تحمله المرأة في حيلها يوم السبت. وفي حالة كذا يكون التصرف كذا وكذا. وهكذا أصبحت الوصية في تفسيرها ألف وصية ووصية.. ماذا تلبس المرأة؟ هل تغطي شعرها أم لا؟ وتظهر المشكلة عندما يجد الإنسان نفسه في موقف غير منصوص عليه في الوصية . وهنا يقع في مأزق، وربما يقع ضحية لمفسرين مغرضين أو سطحيين، ولا يعرف إن كان تصرفه خطأ أم صواب، فيعيش يعاني من عقد الذنب التي تترسب في داخله.

والتعاليم التي نتلقاها اليوم تصور الله كائناً مجهولاً مختفياً خلف كلماته الموحى بها، وليس على الإنسان إلا أن يتعامل مع الكلمات؟ وهكذا نجعل الوصية هدفاً في ذاتها وليست وسيلة لهدف، فنتعب لكي نوفي الوصية حقها. فنصبح عبيداً للوصية ولسنا عبيداً لله. وبهذا أصبح تفسير إنسان ما للوصية سبباً في تكفير أخيه الإنسان وإستبعاده من قائمة المؤمنين بالله. لقد ألغى الإنسان بفكره وعبقريته وأصبح كائناً يتحرك في إطار الوصية. واليوم نرى الوصية بحسب ما فسرها الأقدمون - سيفاً مسلطاً على رقابنا. فالمفسرون الأقدمون يتحكمون في ماذا نلبس اليوم؟ وماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ وكيف نتكلم؟ وكيف نعبد؟ وكيف نسلك؟ وكيف نلبس . وإذا حاول إنسان ما أن يحقق إنسانيته في علاقته مع الله، وينفذ إلى جوهر الوصية لا شكلها، أصبح عبداً ضالاً خارجاً عن الدين، فتفسير الأقدمين، هو التفسير الإلهي للوصية. لكن السؤال هو: هل هذا هو الوجه الحقيقي للمسيح؟! لقد قابل السيد المسيح مواقف كثيرة في حياته كان عليه أن يقدم فيها رأيه عن العلاقة بين الإنسان والله والوصية. ففي مرة رأى مريضاً وأحس أن لديه رغبة في إبرائه، وقدرة على شفائه لكن المشكلة تمثلت في أن اليوم كان يوم سبت ً. فإذا شفاه كان كاسراً للوصية عاصياً لله، وإذا تركه أحس بالألم في داخله. وهنا تأمل المسيح في الوصية لا كهدف في ذاتها لكن كوسيلة، وتأمل في الله وهو يضع الوصية... هل وضعها لخير الإنسان أم لضرورة، وفكر أيهما أهم في نظر الله، الإنسان أم حرفية الوصية. وفي لحظة وصل إلى قرار: هو أن السبت لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت، وأنه يحل فعل الخير في السبت. وتقدم وشفي الإنسان رغم إنتقادات الفريسيين وهي (إحدى الجماعات الدينية المتشددة)، ومحاولة محاكمته من رجال الدين والتشاور عليه لكي يهلكوه.

إن المشكلة التي نعيشها اليوم هي أننا نتخيل الله إلهاً صغيراً بحجم تفكيرنا، نشكله بحسب تشكيلنا النفسي والإجتماعي، فنصنع إلهاً لنا ونعبده. وهذا لا يختلف كثيراً عن عبادة الأصنام في القديم. فنحن نصنع إلهاً من تخيلنا ثم نعبده، وندين الناس من خلاله. هذا الأسلوب جعل الناس يتشككون في كل شيء من حولهم، أصبح لا حول لهم ولا قوة، إذ هم يحسون أنهم في كل لحظة يكسرون وصية، وكلما كسروا وصية أصبح الإحساس بالذنب سيداً عليهم وترسبت عقد الذنب في دواخلهم، وأثر ذلك على إنطلاقهم الروحي والفكري وعلى علاقتهم بالله. فقد أصبح الناس يحسون أنهم يحملون ذنوباً جسيمة، وهم يأتون إلى الله. مع أنهم - حقيقة - لا يحملون كل هذا الكم من الذنب. وبرغم أنهم أبناء يعيشون كالعبيد، لأنهم إختاروا لأنفسهم عقائد وديانات تستعبدهم من خلال فرائض ووصايا.

ان دعوة المسيح هي إلى نوعية أخرى من الحياة. إنه يدعو الإنسان إلى حياة يكون فيها حر الإرادة رافع الرأس، مع إله يحترم إنسانيته ويعامله كإبن، ويفضله على حرفية الوصية. يثق فيه كاملاً - فقط يوضح له الإتجاه العام الذي يريده أن يسلك فيه، والهدف الذي يراد الوصول إليه، ثم يترك له كيفية وسبل التطبيق: (الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها).

الله يحبك ويريد أن يحررك من شبح الوصايا الجامدة إلى حرية ومجد أولاد الله .سلم له حياتك لكي يحررك.