العودة الى الصفحة السابقة
نكرز بالمسيح مصلوباً

نكرز بالمسيح مصلوباً

القس. جون نور


يحيي المسيحيون في كل العالم على اختلاف مذاهبهم ذكرى صلب المسيح سنة بعد أخرى في أسبوع يسمى أسبوع الآلام. فيتذكرون الحدث المنقطع النظير في التاريخ حينما قدم الإله جسده ذبيحة كاملة للتكفير عن خطايا العالم لأنه باختياره أسلم جسده الذي بلا عيب للموت.

إن موت المسيح مصلوباً من أدهش الأمور التي قلما يدركها العقل البشري ، فإنه لم يمت رجماً بالحجارة كما كانت العادة عند اليهود. ولا ضرباً بالسيف أو شنقاً ولكنه حكم عليه بالموت صلباً حسب ترتيب الحكومة الرومانية في ذلك العهد. ومن وراء هذا كان القصد الإلهي أن يحمل لعنة الناموس عن الإنسان. «لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة» (غلاطية 13:3).

فبحسب خطايانا ومعاصينا نحن البشر نستحق أن نحمل اللعنة والعقاب الشديد، غير أن الفادي لكي يجعل نيابته عنا تجاه عدل الله نيابة حقيقية مات مصلوباً ورفع عنا اللعنة.

والصليب الذي كان علامة للإحتقار والإهانة أصبح بتدبير وحكمة الله موضوعاً للإفتخار وقد صرح بولس الرسول بقوله: «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح» (غلاطية 14:6). أي أن صلب المسيح هو علة الفخر إذ به أظهر الله قوته وحكمته الفائقة. وآلة العذاب والإحتقار هذه أصبحت شعار المسيحية الأسمى في كل مكان، وفي كل جيل. بالصليب تتزين صدور العظماء ويرفع رسمه فوق الكنائس والمؤسسات الخيرية وتحمله أعلام الممالك العديدة التي تدين بالمسيحية.

دعونا نذهب بالروح إلى الجلجثة لنشاهد المسيح معلقاً على الخشبة يتألم ويحتمل العار والإهانة ويتجرع كأس الموت المر من أجلنا. لقد تعددت غايات الذين ذهبوا يوم الجمعة العظيمة لمشاهدة الصلب - البعض ذهب بقلوب طافحة بالحقد على ذلك الناصري لكي يروي ظمأ نفسه الشريرة برؤية المسيح يتألم ويموت - والبعض ذهب بقلوب كسيرة يملأها الحزن مع خيبة الأمل والأسف على المحسن العظيم - والبعض لمجرد التفرج على المشهد. أما نحن فعلينا أن نذهب روحياً إلى الجلجثة لنشاهد المصلوب لأنه تحدونا الرغبة في تفهم معنى صلبه والإصغاء للإعلانات التي يعلنها لنا بذلك الصلب حتى تتجلى أمامنا محبته وقيمة

إن أول الإعلانات أنه على الصليب قدم يسوع ذبيحة الفداء عنك الذبيحة المقبولة عند الله والمكفرة عن كل خطاياك. معلنا انقضاء عهد الذبائح الحيوانية وسفك دمها لأنها لا تقدر أن تطهر وهي منذ الابتداء لم توضع إلا كرمز لذبيحته الكاملة، هذه التي تضمن رفع الخطيئة عن كل من يؤمن.

وثاني إعلان يذيعه الرب أنه على الصليب أعلن الحرية لكل إنسان. حرية كاملة من كل سلطة للخطيئة أو للعالم أو لرئيس العالم إبليس أو للجسد. وإنه لما أرتفع يسوع على الصليب كفادي أبرز عمل التحرير من كل عبودية إلى حيز الوجود. ولذا نسمعه وهو على خشبة الصليب يقول «قد أكمل» .

فلا تظن يا أخي أنك غير مستعبد «لأن من يفعل الخطية هو عبد للخطية»، وكما قال المسيح. قد أكمل تحريرك وتحريري أنا بالفداء كي لا نظل مستعبدين لأي شيء إنما لنتمتع «بحرية مجد أولاد الله» .

وثالث إعلان أنه على الصليب أبرم عقد مصالحتنا مع الله - المصالحة بالدم - والروح القدس على فم بولس أوضح هذه الحقيقة إذ قال «عاملاً الصلح بدم صليبه» (كولوسي 20:1). والمصالحة هذه تعني قتل العداوة بين الإنسان وبين الله القائمة منذ السقوط والكلمة الإلهية في أفسس 16:2 تنص قائلة: «يصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به» .

فالمسيح الممدود اليدين كما ترى رسمه على الصليب يعبّر عن قبوله للإنسان بصدر رحب وإرجاعه لحضن الآب الممثل بشخصه القدوس. وهو كوسيط الصلح يعلن ذلك لكي يتخذ كل واحد من الناس بواسطته موقفاً جديداً كابن من أبيه المحب وليس موقف العداوة الأول المهدد بالانتقام من قبله تعالى.

ورابع إعلان أنه بموته على الصليب تمم مطالب صفات الله المتنوعة - صفة العدل التي تطلب العقاب وصفة الرحمة التي تطلب المغفرة. وان كل الديون المطلوبة منك أيها الإنسان قد وفاها الرب يسوع بموته. وعندما تقبله مخلصاً حياً لنفسك تأخذ بمواعيده وصلاً بتسديده عنك الدين المستحق عليك.

إن الصليب المنصوب هناك يشكل أعظم منبر للوعظ. أرتفاع السيد على تلك الخشبة كمنصة يلقي من فوقها أبلغ العظات العملية لا اللفظية فقط. العظات الإلهية لا الإنسانية فقط. من هذه العظات: عظة المحبة المضحية في سبيل الآخرين وعظة المسامحة والمغفرة للمسيئين إليه مقدماً بذلك المثل الأعلى من أجل أولئك الذين ساموه أفظع أصناف العذاب قائلاً: يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا 23: 34).

وأيضاً عظة الثقة بمحبة الآب والاطمئنان بأنه يحفظ الوديعة التي تسلم لعنايته لأننا نسمعه يخاطبه بكلماته الأخيرة قائلاً «يا أبتاه في يديك أستودع روحي» (لوقا 46:23) وبهذه العظة يعلمنا أننا في أخذنا حقوق البنوة له تكون أرواحنا مضمونة بيده ليعيدها إلينا عند القيامة كما أقيم جسد المسيح. على هذا القياس كان إطمئنان بولس حيث قال «إنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم».

علينا إذاً أن نقتفي آثاره بحمل صليب الصعوبات والآلام مهما كانت في سبيل خدمته، والشهادة له والمحاربة تحت لوائه منقادين في موكب نصرته كل حين لكي تظهر فينا رائحته الذكية (2 كورنثوس 14:2 و 15).

ليت الله يجعل رسالته هذه منبهة لك أيها المستمع حتى تتم غايته وتقبل الخلاص بنعمته وتحيا حياة الانتصار والقداسة مع الرب القدوس المنتصر على كل قوات الشر. ليتك تصغي للإذاعة السماوية من الجلجثة فتصبح لك أيضاً طريق الخلاص والنصرة والمجد الأبدي...