العودة الى الصفحة السابقة
مما صنع الصليب

مما صنع الصليب

القس. جون نور


عندما نتأمل في كل الأحداث والأسباب والتفاعلات التي أوجدت الصليب، نجد أنها تنقسم إلى قسمين، احدهما صنعته الإرادة السماوية الإلهية، والآخر قامت به الأيدي الأثيمة البشرية.

فالصليب يتكون من خشبتين متقاطعتين، أحدهما رأسية ترمز لمشيئة السماء، والأخرى أفقية تظهر إرادة الأرض. وكما ارتفعت السماء عن الأرض، هكذا كان الفارق بين الإرادتين. كان هدف الإنسان أن يجعل من الصليب أداة للعذاب والموت، أما الله فأراد به الخلاص، ولقد كشفت تلك الخشبة كل هذه المعاني المتناقضة دفعة واحدة.

فعندما نتأمل الصليب نرى فيه الخطية مُجسمة في أبشع صورها، ولا عجب فهي الأساس الذي أوجده وأوجد أيضاً كل صلبان الحياة.

المرء تصيبه الحيرة عندما يبحث عن الدوافع التي أدت إلى صلب يسوع. وإذا عدنا أدراجنا إلى ذلك اليوم الحزين لنبحث عن السبب فإننا لن نجد علّة واحدة ولا جواباً شافياً إلا في قلب الإنسان. فالبشرية الشريرة الساقطة لم تحتمل وجود ذلك الشخص الطاهر الرقيق بينها، لم تحتمل الوحوش الضارية رؤية ذلك الحمل الوديع، وما كانت الأبالسة أيضاً لتحتمل رؤية تلك البراءة الناصعة. هكذا كانت تلك النسمة الوادعة تؤجج نار الشر الكامنة في القلوب وتزيدها اشتعالاً.

إن تلك الخشبة الأفقية التي سُمرّت إليها يدا الفادي قد كشفت الجانب البشري الشرير في أبشع صورة. وفي اقتضاب شديد أكد هذه الحقيقة الكتاب عندما قال «بأيدي أثمة صلبتموه».

لقد كشف الصليب عن معدن الإنسان الشرير وأظهر أيضاً قداسة الله وحبه وحكمته. فإن كانت الخطية هي أساس كل صلبان الحياة، لكن يسوع ما كان ليُعلّق فوق الصليب لو لم يكن قد أحب الإنسان الخاطئ، فأساس الصليب إذاً خطية الإنسان ومحبة الله أيضاً.

إنها المحبة التي دفعت يسوع لأن يأتي إلى عالم الخطية والشقاء ليُخلّص الإنسان. وكما تضافرت الخطية والبؤس والألم في صنع الإنسان الشرير، أراد يسوع بحبه وبره وفدائه أن يخلقه من جديد.

وهكذا أظهر الصليب إرادة وطبيعة كل من الله والإنسان على حقيقتهما. لقد دفعت الخطية الإنسان ليقتل ذلك البار كي يتخلص منه، أما يسوع فقد سعى إلى الصليب ليُخلّص به ذلك الإنسان المسكين. وهنا تجلّى حب الله في أعظم وأبهى وأعجب صورة.

لكن ذلك الحب الذي تجسّم فوق الصليب لم يكن ذروة وصل إليها حب يسوع بعد طول عناء، بل كان حبه على أشده على طول الزمان، لقد احتسب نفسه ذبيحة حتى قبل أن يرتقي المذبح، إذ كان يتحدث عن الصليب كحقيقة واقعة، وقال مؤكداً قبيل صليبه: «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه».(يوحنا 13:15).

وبعد أن وضع نفسه عرف التلاميذ وكل الخطاة على مرّ الأيام والسنين أنه حقاً لا يمكن أن يكون هناك حب أعظم من هذا.

كان حب الإله لا بد وأن يكون متنازلاً ومتفضلاً ومُتفاضلاً مُنزهاً عن كل غرض شخصي، حتى يستطيع أن يصل للأشرار وأن يكون مترفقاً بالجهال. وكان هذا الحب في إشراقه يتزايد حتى جاء ملء الإعلان في ملء الزمان في قمة من البذل. وهنا ارتفع الصوت.

مدوياً منادياً ومؤكداً:«لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية».

عندما سمع الإنسان هذا القول أصابته الدهشة، وكان في عجب يتساءل هل هذه هي الحقيقة أم أنها أضغاث أحلام؟ وكيف يمكن أن يرحمنا الله إن لم يَصحح ماضينا؟ وكيف يمكنه أن يفعل ذلك دون أن يغفر آثامنا؟ بل حتى إن فعل ذلك فما الفائدة؟ إن غفران الخطايا وحده لا يكفي إن لم يُغيّر أيضاً طبيعتنا وقلوبنا، التي أصبحت ينابيع واسعة تتفجّر منها الرذائل والشرور دون وعي أو مجهود؟

كانت هناك تساؤلات كثيرة تخطر في قلب الإنسان من جهة محبة الله ورحمته، وكان واقع البشرية المُتعبة الساقطة هو الدافع لكل هذه التساؤلات، إلى أن جاء يسوع كلمة الله المتجسد، إذا به هو بعينه الحب والرحمة، الذي لم يأتِ بمجرد كلمات، بل أكد الحب وصنع الرحمة وأتمّ الغفران والخلاص بذبيحة نفسه. لم يكن حب يسوع شعاراً أو كلاماً مُنمقاً بل كان عرقاً وجهاداً وبذلاً وموتاً كي يُتمم للإنسان خلاصه وفداءه.

هكذا كان حب يسوع للإنسان، بلا حد وبلا نهاية «إذ كان قد أحب خاصته أحبهم إلى المُنتهى»...

أحبهم إلى المُنتهى!.. هذه ناحية أخرى مُذهلة لمحبة يسوع. لقد أحب يسوع الإنسان الخاطئ إلى المُنتهى يا للعجب!!!...

فيسوع هو المحبة الأزلية الأبدية التي لا بداية أيام لها ولا نهاية أيضاً. لكن هذا المنتهى لم يقصد به البعد الزمني فقط، فهناك أشياء وأبعاد تجعل الزمن ينكمش أمامها، إنها أبعاد البذل الذي صنع الخلاص.

إن أبعاد محبة الله أعظم من أن يحدها عقل بشري. ولقد جاء الصليب ليكشف لنا عن أبعادها. إن أبعاد محبة الله هي أبعاد الصليب نفسه الذي في علوه يصل إلى عنان السماء وفي عُمقه يهبط إلى أعماق الجحيم، وفي طوله يصل الأزل بالأبد، وفي عرضه يشمل العوالم كلها على مدى الأيام والسنين.

هذه هي حقيقة محبة الله التي بدت في الصليب وأوجدته.

كانت صورة الصليب بكل أبعاده تُهيّمن على فكر ذلك الرسول العظيم، وإذا به يخرّ خاشعاً مُصليّاً طالباً أن يكتشف العالم حقيقة هذا الحب العجيب فقال: «أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أفسس 18:3 و19).