العودة الى الصفحة السابقة
السعادة عن طريق الجوع والعطش

السعادة عن طريق الجوع والعطش

القس. جون نور


قرأت مرة عن رجل قصد مع زوجته ميتماً لكي يتبنيا منه ولداً. وعندما قابلا ذلك الولد وعداه بأن يقدما له كل ما تشتهي نفسه من متاع هذه الدنيا. عندها فكر الولد قليلاً ثم قال: إذا لم يكن لديكما ما تقدمانه لي سوى الملبس والمأكل والألعاب والمأوى، فهذه أمور يحصل عليها معظم الأولاد! فسألته الزوجة: إذاً ماذا تريد زيادة عما ذكرناه لك؟ أجاب: إني احتاج إلى شخص يحبني قبل أن يرعاني! فالمحبة هي حاجتي القصوى!

إن هذا الولد الصغير أدرك هذه الحقيقة: «أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». والقلب البشري لا يسعد بالأدوات المادية أو التسليات الأخرى، لأن النفس لا تعيش على قشور الحياة ولذاتها العابرة، وألعابها الصبيانية. ولا تروى أشواق النفس العميقة إلا بشركة عميقة مع الله الذي خلقنا على صورته ومثاله وجعلنا في مرتبة أدنى قليلاً من الملائكة.

قال يسوع في موعظته المشهورة على الجبل طوبى للجياع والعطاش إلى البر ومما لاشك فيه أن كل واحد منا اختبر الجوع في وقت من الأوقات. فالمرء يحس بالألم وبالانقباض في معدته ساعة يجوع. وكلنا أيضاً تذوق الجفاف الذي يعانيه الجسد عند العطش الشديد. من أجل هذا فإن كلمات المسيح التي يوجهها إلى الجياع والعطاش لا بد أن تثير انتباهنا كلنا.

قد نتساءل: وأي سعادة تكمن في العطش والجوع؟ وللجواب على ذلك نقول: لنعلم أن الجوع من علامات الحياة. فالموتى لا يجوعون والجسم المائت لا يحتاج إلى طعام أو ماء. ويعلمنا الكتاب المقدس أن القلب يتحجر بسبب عدم الارتواء والامتلاء الروحي. فإذا كان في القلب جوع لكلمة الله فإنه يميل لسماع صوت المسيح ويتجاوب مع نداء الروح السماوي.

وكما أن قطعة الحديد يجذبها المغناطيس هكذا فإن الروح الجائعة تنجذب نحو الله. ولكن مشكلة الكثيرين منا هي جعل السعادة العابرة هدفنا، فلا نسعى وراء شيء أسمى وأنبل. لنذكر أن السعادة كانت شاملة في جنة عدن إلى أن دخلت الخطية. وعند ذاك خرجت السعادة لأن هاتين – الخطية والسعادة – ضدان هيهات أن يجتمعا.

ولا يعني البر الذي أشار إليه المسيح في أن تتمم ممارسة الشعائر الدينية بطرق ميكانيكية وروتينية. فلقد حاول بعض الناس اكتساب رضى ربهم عن طريق تشويه أجسادهم أو تعذيب نفوسهم... وحاول آخرون أن يكتسبوا رضاه عن طريق عيشهم عيشة أخلاقية تامة ظانين أنهم بواسطة ذلك يتبررون، وقد فاتهم أن الكتاب المقدس يعلمنا أن برنا الذاتي لا يجدي نفعاً، وأننا لا نستطيع أن نصنع براً من ذاتنا، ولا أن نتقدس من تلقاء أنفسنا، لأن الأحسن منا هو غير نقي وغير مقدس في عيني الله.

وبالرغم من خطايانا نجد أن الله يحبنا. ومن أجل ذلك هيأ لنا براً عن طريق موت ابنه على خشبة الصليب فداءً عن خطايانا. وهذا معنى صليب المسيح أن الله هيأ لنا براً، وأعد لنا خلاصاً عن هذا الطريق. ولذلك أصبح الصليب رمز المسيحية. ونحن لا نستطيع من أنفسنا أن نحصل على هذا البر. ويقول الرسول بولس: «لأن أجرة الخطية هي موت وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا»(رومية 23:6).

إن كثيرين منا ليس لهم شهية للأمور الروحية، وذلك لانغماسهم في المسرات الخاطئة لهذا العالم. كثيرون يؤمنون بالله إنما ليس الكثيرون منهم من يعطي وقتاً لله. فهم مشغولون بأمور الحياة المادية، وليس لهم وقت للتفكير بالله، أو لمطالعة كلمته المقدسة، أو للاهتمام بإخوانهم من بني الإنسان. وهكذا نجدهم قد فقدوا وأهملوا الحياة الروحية النافعة لنموهم الروحي واللازمة لإشراق نفوسهم.

كثيرون يقولون نحن نومن بالله... أفليس هذا كافياً؟ والجواب هو أن الإيمان وحده لا يكفي بل يجب أن يقترن بالأعمال. وينطبق هذا على الحياة الروحية المسيحية . فإذا آمنت بالكنيسة وبالكتاب المقدس ولم تقبل المسيح في قلبك، فإيمانك وهمي. ولكن حالما تقبله في قلبك فأنت تولد من جديد وتحصل على حياة جديدة. تحل في قلبك طبيعة الله المقدسة وتستحوذ على نفسك، وبهذا تصبح ابناً لله وشريكاً للعلي في الحياة الروحية.

نقرأ في العهد الجديد أن الكنيسة الأولى كانت ممتلئة بالروح القدس. ولم يكن للمسيحيين الأوائل ثمة أدوات وتجهيزات كالتي لنا في هذه العصور. كانوا محرومين من الكتب المقدسة والسيارات والأدوات السمعية والبصرية وغيرها من الوسائل العصرية. لكنهم رغم افتقارهم لكل هذه الأمور استطاعوا أن يفتنوا المسكونة ويجلبوا العالم للمسيح. ولقد قاموا بثورات روحية هزت أساسات الإمبراطورية الرومانية. وما ذلك إلا لأنهم كانوا أقوياء بالروح وعاشوا حياتهم اليومية للمسيح. وما أكثر الاضطهادات التي تحملوها في سبيل عقيدتهم! فإنهم استعذبوا الموت في سبيل إيمانهم الحي بالمسيح!

وخلاصة القول أننا نحظى بسلام القلب وبسكينة النفس متى اعترفنا بجوعنا الروحي العميق وسلمنا نفوسنا بالكلية إلى الله، ونشبع روحياً عندما نكون راغبين أن نحول وجوهنا عن الأمور المصطنعة في هذا العالم بحيث نلتفت إلى المسيح، وننهل من ينبوع مائه الحي – ذلك الماء الذي عندما نشرب منه لا نعطش أبداً ...