العودة الى الصفحة السابقة
من ذبح المسيح؟

من ذبح المسيح؟

جون نور


لم يكن الصليب إلا مذبحاً فريداً قدمت عليه تلك الذبيحة الأزلية التي كانت لأهميتها العظمى موضوع نبوّة الأنبياء ورؤى الرائين. وحين أتى ملء الزمان تمت هذه الذبيحة بكل دقائقها وتفاصيلها في المكان والزمان المعينين.

إن هذا التخطيط السماوي يفوق كل مدارك البشر. فلقد كان هناك الكثير من الأماكن الرفيعة التي كانت تليق بمقام يسوع، لكنه من كل القصور كلها، ولد يسوع في مذود البقر، ومن كل القلاع والحصون مات فوق الجلجثة، ومن كل الأوقات والأيام، تمت تلك الذبيحة في عيد الفصح حتى يُكمّل للعيد بهجته سلامه.

إن المرء يصيبه الذهول لهذا التخطيط العجيب الذي تمّ بكل دقة في ملء الزمان. فلقد حدث في تلك الحقبة الشاسعة من الزمن الملايين من الأحداث التي كان من الممكن أن تغير مجرى الأمور. لكن بالرغم من كل هذا تمت تلك الذبيحة الفريدة بكل دقائقها مؤكدة بذلك حكمة الله وقدرته وعظمته.

لم يدرك الإنسان أن يسوع هو حمل الله الذي سيرفع خطايا العالم بالرغم من كل النبوات التي أنبأت بمجيئه، وبالرغم من كل أحاديث يسوع التي تحدث فيها بإسهاب عن حقيقة نفسه وهدف حياته.

كان الإنسان في جهل شديد عندما ذبح المسيح. لكن هل كان ممكناً أن يذبح الإنسان سيده عن معرفة وحب؟... وهل يمكن أن نتخيّل ماذا كان يحدث لو أن الإنسان عرف في حينه أنه يقدم بيديه تلك الذبيحة الإلهية الفائقة التي يتوقف عليها خلاصه؟...

إن الحربة التي طعن بها المسيح قد نبتت من داخل جنة عدن، وكأنى بالبشرية كلها قد أمسكت بها لتدقها بعنف في جنبه. كما أن الأشواك التي كللت هامته بذرت بذورها منذ القديم، ومن وقتها والإنسان يضفر إكليل العار ليتوّج بها المسيح المصلوب.

لكن هل انتهت عملية صلب المسيح؟ كلا... ولئن كانت قد انتهت بالنسبة للمسيح فإنها لم تنته بالنسبة للإنسان بعد. فهو ما زال يمسك بالحربة ويضفر أكاليل الشوك مؤكداً أنه وإن فاتته الفرصة لكن الإرادة لا تنقصه. إنه ما زال يؤكد باعماله إرادته وتأييده لما فعله آباؤه. ما زال الإنسان يشترك مع الأقدمين في صراخهم: «خذه أصلبه... » «دمه علينا وعلى أولادنا»«ليس لنا ملك إلا قيصر.... ».

إن واقع البشرية ما زال يؤكد أنها ترفض يسوع وتريد صلبه وسفك دماه. إنها لا تريد لها ملكاً إلا قيصراً فملكها الكبرياء والمادية والإباحية، وليذهب المسيح إلى الهاوية!!.

وبالرغم من أن عملية الصلب كانت لتكفّر عن الإنسان، لكن الإنسان صار هو الجلاد. وهنا يتكشف عمق الضلال وشدة الشر والخبث عندما أمسك الإنسان بالسكين ليذبح فاديه وأحب الناس إليه.

ماذا وجد الإنسان في يسوع حتى يضمر له كل هذا العداء؟ وماذا صنعت هاتان اليدان حتى سمرتا، إلا أنهما أشبعتا الجياع وشفتا المرضى وأقامتا الموتى. ولماذا كل هذا الحنق والسخط الذي أظهره الإنسان لأرق شخص في الوجود، ذاك الذي بكى لبكائهم وتألم لآلامهم وقضى الليل والنهار يخفف من ويلاتهم؟

حقاً لماذا صلبت الإنسانية المتوحشة هذا الإنسان الوديع الذي لم يضمر لها إلا كل الحب والخير؟

إن صلب يسوع قد عرى البشرية كلها، وأظهرها في أبشع صورها وعمق شرورها وآثامها. وهكذا فإن كان أساس الصليب هو الخطية، لكنه كشف أعماق الخطية أكثر من أي وقت آخر.

كان الشيطان في صلبه للمسيح يهدف لأن يتخلص منه بأبشع وأقسى طريقة، بعد أن أخفق في قتله بسيف هيرودس ورجمه على أيدي الفريسيين، أراد الشيطان أن يتخلص من السيد بهذه الطريقة البشعة المهينة معلقاً إياه بين الأرض والسماء.

لكن لم يكن هذا هدف الشيطان فقط من صلب يسوع، لكنه أراد بالصليب أن يدخل إلى قلبه شيئاً من الكراهية. أراد أن يكون الصليب هو الوسيلة لإماتة يسوع نفسياً وروحياً بإبعاده عن أهدافه وإسقاطه وهو في قمة عذابه.

في موقعة الجلجثة لم يستطع الشيطان أن يصل إلى قلب يسوع. لقد استطاع أن يمزق الجسد ويسحقه سحقاً لكن عندما تحطمت هذه القشرة الخارجية، تكشفت للعالم أعماق ذلك القلب الكبير المليء بالحب لهم.

صعد الابن على مذبح الجلجثة طوعاً... وهناك ذبح الأب ابنه الوحيد حباً!!...

إن البشرية مهما سحقت وتألمت لن تدرك شيئاً من مشاعر الأب والابن معلق على الصليب... وكأنى بالآب كان يمسك بإحدى يديه سكين القضاء... وباليد الأخرى يحوطه بكل الحب والحنان...

فوق مذبح الجلجثة تمثلّت أعظم وأعقد مشاهد التاريخ كله... وتجسّمت أسمى قمم الحب الدامي... وتجمعت أعظم التناقضات المذهلة بين حب وحب... ودموع ودموع... وقوة وقوة... ومجد ومجد!!...

إن ذلك الصليب الجبار العظيم بما تمثّل فيه من قيم وقمم سوف يعلو دائماً شاهقاً فوق كل عقول البشر وقلوبهم... ولسوف يشدنا دائماً إليه ويصيبنا أبداً بالرهبة والحيرة والذهول... لكنه فوق كل شيء سوف يلهب وجداننا بالحب والولاء والخشوع له... لكن لماذا؟... لماذا كان كل هذا التشوق للموت!... الحب للمعاناة!... لماذا دوى صوت رب الجنود منذ فجر التاريخ هاتفاً: «استيقظ يا سيف... استيقظ يا سيف... » (زكريا 7:13).

في ذلك اليوم العظيم... من قلب الجلجثة... عندما تفجرت ينابيع محبة الأب والابن معاً... هناك تفجر ذلك الينبوع... ينبوع الغفران للخطية... والطهر للنجاسة... ينبوع الحياة والخلود...