العودة الى الصفحة السابقة
البحث عن السعادة

البحث عن السعادة

جون نور


قال أحد القادة الاجتماعيين المشهورين: لقد فقدت كل رغبة في الحياة مع أن كل ما استطيع أن أعيش لأجله متوفر لدي. فهل لي أن أعرف السبب يا ترى؟

وقال شخص متعب لطبيب نفساني: أنا أشعر بالوحدة واليأس والشقاء، فهل تستطيع مساعدتي؟ وما كان من الطبيب إلا أن أشار عليه بأن يذهب إلى السيرك ويجتمع بمهرج اشتهر بإثارة الضحك في قلوب أشد الناس بؤساً وغماً، فيلازمه مدة من الزمن. فقال الرجل الذي قصد الطبيب النفساني للمعالجة: ليتك تعلم أني أنا هو ذلك المهرج بنفسه وأنا الذي يحتاج إلى مساعدة!

أجل ما أكثر ما نرى عالمنا المادي يسعى جاهداً للوصول إلى السعادة! إنه مستمر في سعيه وراء هذا الغرض. لكن يظهر له أنه كلما حصل على معرفة أكثر قلت الحكمة التي يحظى بها ... وأنه كلما ربح ضماناً واستقراراً اقتصادياً زاد ملله وضجره من الحياة ...

الحياة أشبه ببحر مضطرب، والإنسان فيه كالقارب تتقاذفه الأمواج! فإذا ما وجد أحد الناس بعض المسرة هنا وشعاعاً من نور السلام هناك، يدرك في النهاية أن لا شيء مما وجده يروي عطشه، ويشبع جوعه أو يبدد ظلمته .. ذلك لأن ما حصل عليه مؤقت وغير دائم. وهكذا يظل سعيه مستمراً ومتواصلاً.

في العالم الذي نعيش فيه نرى الناس يكذبون ويخدعون ويسرقون ويقتلون. وكثيراً ما يثيرون حروباً سعياً وراء القوة، وطلباً للغنى والثروة، ظانين أنهم عن هذا الطريق سيحصلون على السلام المرغوب والسعادة المنشودة.

السعادة الحقيقية في الحياة ليست سعادة سطحية ترتبط بالأحوال والظروف. لأن السعادة الحقة إنما تملأ شغاف القلب وتغمر أغوار النفس حتى في أشد الساعات حلكة وأصعب الظروف وأمر الحالات. ومثل هذه السعادة تجعل صاحبها أن يكشر عن أسنانه عندما يرى الأمور تسير سيراً معوجاً، كما أنها تحمله على الابتسام والإشراق حتى إذا كان سائراً وسط وادي الظلمات والدموع.

فالسعادة التي تتوق إليها نفوسنا لا تحمل صاحبها على الزهو والافتخار عند النجاح، ولا على الاضطراب عند الفشل. إنها سعادة متأصلة في داخلنا، تعطينا سلاماً داخلياً وتوفر لنا رضى شاملاً، بغض النظر عن المشكلات الخارجية. ولا تعتمد سعادة من هذا النوع على مؤثرات خارجية أو دوافع ترتبط بالظروف أو أمور تتعلق بالأحوال العرضية.

يحتاج الإنسان في هذا العالم إلى سلام – ليس ذلك السلام الخارجي الذي يهبه العالم لأبنائه، بل إلى سلام داخلي فيه يتحرر به من كل مشكلاته، وارتباكاته، وحيرته، وقلقه. إنه يريد الحصول على سكينة النفس التي تملأ كل كيانه. فهو يسعى لينعم بسلام يعمل فيه ويؤثر عليه وسط تجارب الحياة وفي غمرة الأثقال والأحمال.

لقد استعمل المسيح كلمة {طوبى} ثماني مرات في تلك الفقرة المشهورة من العظة على الجبل التي تعرف عادة {بالتطويبات} وعادة ما تترجم كلمة طوبى في معناها إلى كلمة سعيد. كانت كلماته الأولى في هذه الموعظة {طوبى لكم} ولكنه أعقبها بمعادلته للسعادة. ولنعرف انه لم يكن في مقدور أحد أن يتذوق السعادة الكاملة سوى شخص المسيح. فهو وحده الذي سبر غورها وعرف سرها. ولذلك نجده في هذه التطويبات يحاول أن يكشفها لنا.

فهو المخلص الذي مات من أجل الخطاة حاملاً أوزارهم على صليب الجلجثة. إنه مات ليخلص أناساً كسروا الشريعة الإلهية المثالية ... ومات من أجل هؤلاء الذين طبيعتهم غير المجددة لا تمكنهم من الحصول على جدة الحياة أو خلاص نفوسهم.

لقد كانت رسالة المسيح وهو على الأرض مفهومة كل الفهم بالرغم من أنها كانت ثورية في بعض الأحيان. فكلماته كانت بسيطة لكنها في الوقت ذاته عميقة ومؤثرة لدرجة أنها استطاعت أن تهز نفوس الرجال وتثير حياتهم، فاكتسبت رضى بعضهم في حين أنها لاقت من البعض الآخر رفضاً عنيفاً. ونلاحظ أن الناس الذين تبعوه لم يبقوا كما كانوا بعد سماعهم لكلماته. فإما أصبحوا في حالة أحسن، أو تحولوا إلى شيء أسوأ. ويبدو أن في كلامه قوة حملت سامعيه على العمل الحاسم السريع.

ومضت قرون على هذه الموجة الأولى العارمة من الانتفاضة الروحية، وظل تيار المسيحية يسير بدون توقف. ومراراً كان يصحبه المد، وفي أوقات أخرى كان يتعرض للجزر. وقد لوثته بعض التيارات العالمية وعرقلت سبيله بعض المذاهب الإلحادية والمادية، ومبادئ وعقائد الطبيعيين والعصريين. فهذه كانت بمثابة تيارات موحلة عكرت مجرى الفكر المسيحي المتدفق ولوثت طريقه الصافي النقي. فأصبح من المتعذر على العالم التمييز بين الظواهر والحقائق، وبين الأمور الصحيحة والزائفة.

أن ما تفوه به على جبل التطويبات في بلاد فلسطين الصغيرة النائية فقد ادخل في سجل التاريخ حكمة عميقة، وكنزاً خالداً. كلمات سامية، موحية! كلمات بسيطة، إلا أنها كشفت عن سر السعاة – لا سعادة سطحية، محصورة بوقت ما، أو مرتبطة بمكان معين، بل سعادة خالدة دائمة أبدية. وقد قصد المسيح أن يوضح معالمها، وأن يضع خطوطها الكبرى لنا ولمن يأتون بعدنا.

كانت أولى الكلمات التي قالها يسوع في موعظته {طوبى}،أي يا لسعادة. الذين يصنعون السلام ويا لسعادة الجياع إلى كلمة الله ويا لسعادة انقياء القلب وعلى الأثر أصاخ المستمعون بآذانهم كعادة الناس إلى مايقوله يسوع . وأملي بأن لا يقتصر استماعك على الإصغاء فقط بل لتعمل الكلمات التي أقولها على فتح قلبك لرسالة المسيح وتسليم ارداتك لله، ففي ذلك تحظى بحياة جليلة وتبدأ صفحة مجيدة مع الله، وتجد رضى وفرحاً يعوضانك عن سخافات العصر وأموره الزائفة. و بسلوكنا هذا نكون قد عملنا على اكتشاف سر السعادة الحقيقي، وحققنا الأمنية التي طالما تاقت إليها نفوسنا ألا وهي السير مع الله والتمتع بسعادته الأبدية .