العودة الى الصفحة السابقة
بين عهدين

بين عهدين

جون نور


يفصل مجيء المسيح بالجسد لخلاص البشرية بين عهدين: {العهد القديم، والعهد الجديد}. ويتميز كل من العهدين بصفات خاصة. فشعار العهد القديم كان {افعل هذا فتحيا}، كما انه تميز بالرموز والذبائح، وامتلأ بالطقوس والفرائض. تسمع بين ثناياه أصوات البروق والرعود، وهدير الطوفان والنيران. حفلت مواعيده بالبركات الأرضية التي كانت دليلاً في أغلب الأحيان على الرضى الإلهي، وتميز أيضاً بالشريعة الموسوية التي هي أعظم موسوعة قانونية تحكم علاقة الإنسان بالله وبأخيه الإنسان، كما كثر فيه الأنبياء مشجعين ناصحين .. أو محذرين منذرين .. أو متحدثين عن الآمال المرتقبة وحوادث المستقبل.

أما العهد الجديد فكان شعاره {آمن بالرب يسوع فتحيا}،إذ قد جاء رب المجد الذي هو روح النبوة، فيه قد تحققت جميع النبوات التي كانت في نور العهد القديم طلاسم وألغاز. كما رأينا فيه إعلان المحبة الكاملة التي تجلت في تجسده، بل وفي صليبه. جاءنا بشريعة الصفح والغفران، وإنجيل المحبة والإحسان. غفران للمذنبين، وصلاة لأجل المسيئين. عطف على المحتاجين، وحنان نحو المتألمين. تلك المبادئ السامية التي لم تألفها البشرية الراغبة في الانتقام. بل في العهد الجديد، وفي تجسد المسيح، قد تبلورت مقاصد الله من نحو البشر فقد أنار لنا الحياة والخلود (2 تي 10:1)، وكشف الستار عن حقائق الأبد وأضواء المجد.

لقد جاءت بين هذين العهدين فترة مظلمة في تاريخ الإنسانية، فلا هي بقادرة على السير بمقتضى الشريعة والناموس، ولا هي بمستعدة لقبول إنجيل المحبة لتحرير النفوس

هكذا عاش الإنسان في ذلك الظلام الحالك، لا يعرف الطريق إلى الله، ولا السبيل إلى الحق والفضيلة. تركوا الينبوع الحي ونقروا لأنفسهم آباراً مشققة لا تضبط ماء (إر 13:2). وكلما هبت موجة من الصلاح أو الإصلاح، ما كانت إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع.

وكم شهد التاريخ من قادة مصلحين، فلاسفة حكماء، مشرعين مقتدرين، ينشدون إصلاح الحال، لكنها كانت صرخة في وادٍ، وما أن أفل الصوت حتى ذهب صداه إلى غير عوده. فالفلسفة البشرية عجزت عن القيادة إلى طريق الحق والفضيلة. والقوانين الوضيعة قصرت عن تهذيب الطباع البشرية أو استئصال شأفة الخطية. وكلما كثرت القوانين كلما تفنن البشر في كسر نواميسها والهروب من سلطانها، ولهم في ظلام القلب وسيادة الخطية خير معين على التمرد والعصيان. وبذلك ظلت البشرية في ظلام دامس، حتى قال فيلسوف اليونان العظيم سقراط في حديث هو نسيج من الألم والأمل: {إن الخالق المحسن سوف يرسل في الوقت المناسب معلماً يعلم الناس كيفية الوصول إلى الخير}.

فكيف السبيل للخروج من تلك الظلمة الدامسة؟..

ومن يقدر أن يشبع تلك القلوب الجائعة ذات الحاجة الصارخة للمصالحة مع الله ؟.

إذاً لا بد أن يتداخل الله بنعمته، فهو وحده الذي يستطيع أن يعالج هذه الحالة.

نعم، هكذا كان .. فمنذ اللحظة الأولى للسقوط البشري تداخلت نعمة الله، وفي مشهد الغضب والحكم الإلهي على الخطية وأسبابها ونتائجها تداخلت رحمة الله فأعلنت الوعد الأول بالخلاص والإنقاذ. لذلك جاء الصوت الإلهي:{أترك أوراق التين أيها الإنسان الفاشل، وهوذا دم مسفوك، وهوذا أقمصة من جلد، ورغم أن الحية قد هزمتك وأذلتك لكن أعلم أن نسل المرأة لا بد أن يسحق رأس الحية}.

بصيص من نور، وشعاع من أمل .. ظل يتزايد ويشرق، فكانت لنا هذه النبوات الصادقة التي يحفل بها العهد القديم، والتي هي دليل صدق وبرهان حق على سمو المسيحية في إعلان المقاصد الإلهية. ورغم أن النبوات قد شملت الكثير من الحوادث والموضوعات، إلا أنها تركزت في ذاك الذي هو روح النبوة – الرب يسوع المسيح – فتحدثت عن الحبل به، وعن مكان ميلاده، عن سمو مقصده وقداسة حياته، عن مقاوميه وشدة آلامه، عن موته وأمجاد قيامته. ورغم أن الحديث عن هذه النبوات محبب للنفس، مشبع للقلب، إلا أنه حديث يطول شرحه وتتشعب نواحيه، ويصعب في مثل هذه الحلقة الإفاضة فيه، لكنني أوجز الكلام في ما يتعلق من نبوات عن ميلاد المخلص يسوع المسيح:

حدثنا أشعياء النبي الإنجيلي عن كيفية ولادته، إذ قال{ها العذراء تحبل وتلد أبناً وتدعو اسمه عمانوئيل}} (أش 14:7). وهذا ما تم حرفياً في العذراء المطوبة، إذ أعلن لها الملاك البشارة الخالدة: {الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك لذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله}(مت 20:1).

كما حدد لنا ميخا النبي مكان ولادته ومسقط رأسه: {أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل}(ميخا 2:5). وهذا ما حدث فعلاً، إذ أنه رغم أن العائلة المقدسة كانت تسكن الناصرة، لكن كان لا بد أن يتم المكتوب، فيصدر أغسطس قيصر أمره بالاكتتاب العام – وهو لا يدري أنه ينفذ مقاصد الله – لذلك يذهب يوسف وخطيبته مريم إلى بيت لحم، وفي هذه الفترة بالذات يولد المسيح. وهذا ما لم يغب عن أذهان رؤساء الكهنة الذين أشاروا على هيرودس بأن المسيح يولد في بيت لحم حسب النبوات.

هكذا تتم النبوات مرحلة بعد أخرى لتشير إلى هذه الحقيقة الواضحة، ألا وهي صدق كلام الله. ومهما حاول المتشككون أو المتفلسفون، المعاندون أو المدعون، أن يطعنوا في صدق هذه الأقوال الحية فستبقى إلى الأبد تعزية كاملة للنفس المؤمنة وملجأ أميناً للبشرية الحائرة.