العودة الى الصفحة السابقة
«... وعلى الأرض السلام»

«... وعلى الأرض السلام»

القس. جون نور


أبهج المفاجآت هي تلك التي فاجأت بها السماء الأرض، يوم أهدتها هدية جليلة القدر، على صورة لم ترها من قبل عين، ولا سمعت بها أذن، ولا خطرت على قلب بشر.

هدية عظيمة في ذاتها، جميلة في صفاتها، ولكن زادها عظمة وجمالاً، إن السماء فاجأت بها الأرض، والأرض عنها غافلة. فكانت أجمل تعبير عن اهتمام السماء بالأرض، حين كانت الأرض لاهية بلذاتها عن جوهر ذاتها، منصرفة إلى باطل آمالها عن حقيقة مآلها.

في ذات يوم، وقد خلعت الأرض حلة النهار الموشاة بأشعة النور، وتسربلت سربال الليل المنسوج من خيوط الظلام، أغمضت جفنيها، ونامت على فراش اختلط فيه شوك الألم بريحان الأمل. ولما جُنَ الليل وساد السكون، اقتربت السماء من الأرض ووضعت بين يديها هدية كريمة. وقبيل أن يتبين الناس الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أرسلت السماء فرقة من ملائكتها، لتُيقظ الأرض من رقادها بعذب أناشيدها فأنشدت الملائكة قائلة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة» سمعت الأرض هذه الأنشودة، وهي لم تفق تماماً من نومها، فلم تكن تدري أهي في يقظة أم في منام وسرعان ما تنبهت حتى وجدت بين يديها هدية عجيبة لا من الأرض ولا من السماء مع أنها جمعت بين الأرض والسماء، لا شرقية ولا غربية لكنها جمعت إلى مجد الشرق جلال الغرب. فهللت الأرض وكبرت، ثم ترنمت فشكرت. فالتقت ترنيمتها بتسبيحة السماء، وتجاوبت الأصداء في قلب الفضاء، يوم ميلاد المسيح الذي وجدت فيه الأرض أبهج هدية فاجأتها بها السماء.

مفاجأة لطيفة ما أبهجها!

لقد شهدت الأرض من قبل مفاجآت كثيرة مزعجة فتحطمت لهولها قلوب العذارى، وتقوست لشدتها ظهور الشباب، لكن هذه مفاجأة سعيدة، طربت لها قلوب العجائز، ورقصت لها قلوب الشيب فترنمت حنة وهتف سمعان الشيخ قائلاً:«الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام».

مفاجأة سعيدة، أضحت بعد حين عادة مألوفة، وكادت تصبح سنة طبيعية ثابتة يسير عليها ساكنو الأرض اقتداء بما فعلت السماء. فمتى لاحت بوادر العيد، شرّع الأهل في إعداد الهدايا للأبناء وتفننوا في ابتكار أغرب الطرق التي بها تصبح لهم الهدايا من أبهج المفاجآت. منذ عصى آدم ربه فغوى، هوى إلى حضيض البؤس والشقاء، فتبدل بأسه يأساً، وتحولت ابتسامته إلى دموع. ولّما تساقطت هذه الدموع على الأرض، تبخرت بفعل الحرارة الكامنة في قلبها، فتصاعدت أناتً ملتهبة إلى السماء. فتعطف رب السماء على أبناء الأرض، ووعدهم بهدية من عنده، في ساعة رتبها في قصده، لترفع عنهم خطيتهم وتعيد إليهم سالف عزهم ومجدهم. ولما كمل الزمان، ودقت الساعة، كانت الأرض قد ثملت بعد أن شربت دموع بنيها الممزوجة بدمائهم، فلم يبقَ فيها سوى نفر قليل من أتقياء اليهود وحكماء الأمم، يتوقعون مجيء هدية السماء، ولهذا النفر أيضاً، كانت هدية السماء من أبهج المفاجآت.

هنالك في بيت لحم وضعت السماء هديتها في أحقر منزل، وفي أضعف مظهر، وفي أحقر مهد.. فكانت هدية السماء «طفلاً في مذود»!! لأن السماء أرادت أن توجه نظر الأرض إلى الهدية نفسها لا إلى ما يحيط بها من جلال أرضي أو مجد. فما أكرم السماء وما أبخل الأرض!

هذا هو المسيح الذي أهدته السماء إلى الأرض، فسمعت الأرض يوم ميلاده أغرب خبر. لأن أمه العذراء وضعته من غير أن يمسسها بشر. فتحيرت في أمره العقول والفكر، والعقل متى تحير بحث ومتى بحثَ تدبر، ومتى تدبر سلّم بأن ذاك فوق مستوى البشر.

وكما كان المسيح عجيباً في ميلاده كذلك هو أيضاً عجيب في تعاليمه ومبادئه.

في عصره كانت الأمة التي جاء منها مستعبدة لنير الرومان. فكان من المنتظر أن يُحرض المسيح شعبه على قص جناحي النسر الروماني، لكنه فاجأهم بتعاليم خيبت كل انتظاراتهم، إذ قال: «لا تقاوموا الشر. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر.. من سخرك ميلاً واحداً فامشِ معه اثنين.. أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم».

وحين أراد أن يختار تلاميذه ورسله، لم يخترهم من الأغنياء الفقراء، بل من الفقراء الأغنياء، ولا من الأقوياء الضعفاء، بل من الضعفاء الأقوياء، وفي اللحظات الأخيرة التي ودع فيها الأرض كان وحيداً بكل ما تنطوي عليه الوحدة من معانٍ، فظن الناس أنه بعد حين سيصبح نسياً منسياً. لكنه بعد قليل تحكم في التاريخ وأمسك بقرون الزمن. لم يضع في حياته لبنة على لبنة ليبني لنفسه بيتاً، لكن أفخم المباني مكرسة لسكناه. لم يكتب في حياته كتاباً، لكن جل الكتب تفيض بجليل ذكراه. لم يتزوج قط، لكن الأزواج يستمدون السعادة من قلبه الطهور. لم يولد له ولد، لكن ملايين الأولاد يرقصون طرباً كلما ذكر اسمه، لم ينظم قصيدة واحدة، لكن قصائد نابغي الشعراء تُقدم سكيباً عند قدميه. لم يرسم صورة في حياته، لكن جبابرة الفن والتصوير يتسابقون في تخصيص أبدع صورهم لذاته. لم ينشئ قطعة موسيقية واحدة، لكن أعذب الأناشيد ترنم يوم ميلاده السعيد.

الآن وقد أقبل عيده المجيد فكيف نستقبل يوما الميلاد؟ جميل أن نتحلى بثياب العيد، وأجمل منه أن نتجمل بروح العيد وأن نحتفظ بهذا الروح حتى يأتي العيد الجديد.

روح العيد هو روح الرجاء. وهنا يجمل بنا أن نذكر أن عيد الميلاد يقع عادة في الأسبوع الذي يظفر فيه النهار بالليل، فيتزايد النهار ويتناقص الليل، رمزاً إلى انتصار النور على الظلام، وتغلب الرجاء على اليأس، وظفر الحياة بالموت. فلا عجب إذا أحيا المعيدون ذكرى هذا العيد باجتماعهم حول شجرة خضراء تضيء فيها شموع متقدة، فالشجرة الخضراء ترمز إلى الحياة الظافرة، و الشموع المتقدة ترمز إلى النور والتضحية. لذلك وجب أن يختنق اليأس في جو هذا العيد المُظفر، وأن ينتفي ظلام الخطية ويتبدد ضباب الهجوم أمام بهاء أنواره، وأن تختفي الأثرة والأنانية أمام جلال مجد تضحيته فعلى قدر ما نسعى في إسعاد الآخرين، نصير نحن سعداء وتمتلئ قلوبنا بهجة ونعيماً، في عيد ذاك الذي لم يأتنا مخدوماً بل خادماً.