العودة الى الصفحة السابقة
أنا هو نور العالم ج2

أنا هو نور العالم ج2

القس. جون نور


يبتدأ الكتاب المقدس بهذه الآية : «في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة خالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروُح الله يرف على وجه المياه» (تك 25:1). هذا كان في البدء،

لكن عندما جاء الرب يسوع إلى عالمنا لم تكن الأرض خربة أو خالية، لكن الظلمة الكثيفة التي كانت تغطي الأرض كانت أعظم من أن توصف!!… والظلمة لم تكن مجرد ظلمة العقول المجدبة أو الظروف المجحفة، لكنها فوق كل شيء كانت ظلمة القلوب الآثمة .. ولقد جاءت هذه الظلمة البشعة نتيجة لكثافة الحجب التي فصلت بين الله والإنسان. ولقد صور أشعياء هذه الحالة المأساوية عندما قال «ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع. بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع. لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم. شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر. ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق. يتكلون على الباطل ويتكلمون بالكذب. قد حبلوا بتعب وولدوا إثماً. فقسوا بيض أفعى ونسجوا خيوط العنكبوت. الآكل من بيضهم يموت والتي تكسر تخرج أفعى. خيوطهم لا تصير ثوباً ولا يكتسون بأعمالهم. أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم. أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي. أفكارهم أفكار إثم. في طرقهم اغتصاب وسحق. طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل. جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة. كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً. من أجل ذلك ابتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل. ننتظر نوراً فإذا ظلام. ضياء فنسير في ظلام دامس» (إش 1:59 – 9).

ما أبشع هذا الظلام، ظلام الخطيئة الذي جسمه أشعياء وكل ذلك كان نتيجة لأن آثامهم صارت فاصلة بينهم وبين إلههم.

لكن، في وسط هذه الظلمة المخيفة كانت النبوات تتوالى لتشجع هذا الشعب التائه البائس السالك في الظلمة والجالس في ظلال الموت، مؤكدة أن الفجر قادم لا محالة.

لم يهن على الرب أن يترك الإنسان في ظلام الخطيئة وفي ظلال الموت فأرسل ليبشرهم بكوكب الصبح المنير الذي سوف يبزغ وإذا بالظلمة تتلاشى من نفسها. وفي هذا أخذ أشعياء ينادي قائلاً «الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (إش 2:9). ومن بعده جاء هوشع ليؤكد هذا المعنى عندما قال «لنعرف فلنتتبع لنعرف الرب خروجه يقين كالفجر. يأتي إلينا كالمطر، كمطر متأخر يسقي الأرض» (هو 3:6). ومن بعده أتى أيضاً ملاخي ليزيد هذا المعنى تأكيداً. ومع أن الظلمة كانت قد وصلت إلى ذروتها نادى ملاخي قائلاً«ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها»(ملا 2:4).

كان للشعب الجالس في الظلمة شوقٌ وحنين لأن تتحقق هذه النبوات ومع طول الانتظار اعتصره اليأس وخيمت عليه الشكوك وأصبحت هذه الكلمات تثير فيه الشجن بدلاً من أن تعطيه الأمل. لكن في الميعاد المحدد منذ الأزل أتى السيد إلى هيكله بغتة ونادى قائلاً «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة»(يو 12:8).

«أنا هو نور العالم»

عندما قال يسوع هذا كان ليؤكد أن الخطية لن تسودكم والظلمة لن تطغى عليكم. إن الغلبة هي دائماً لي. وبهذا النداء كان يسوع يؤكد أيضاً أن الصراع الأزلي بين النور والظلمة قد دخل إلى معركة حاسمة.

وأن الخاتمة معروفة مسبقاً، فأنا هو نور العالم الذي سوف أبدد كل ظلام. وفي هذا قال يوحنا «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه»(يو 1:1 – 5).

أنا هو نور العالم …

ومن العجيب أن الرب يسوع أطلق هذا النداء بعد مواجهة عاصفة قامت بينه وبين الكتبة والفريسيين. حتى في بيت الله لم يتحرجوا أن يجربوه. وتتجسم شدة الظلام الذي ساد في ذلك الوقت عندما أحضروا إلى الهيكل امرأة أمسكت في زنا «ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت» (يو 3:8 – 5).

إن ظلام الخطيئة التي كانت تعيش فيه البشرية لا يحتاج إلى تعريف. لكن الظلام الأبشع هو ظلام الكراهية والحقد الذي كان يخيم على عقول وقلوب تلك الطبقة الضالة المضلة التي أرادت أن تحكم العالم باسم الدين وتمارس فيه كل سبل القمع والقتل والإرهاب …

لقد أراد الكتبة والفريسيون أن يصيبوا يسوع والمرأة بحجر واحد في مقتل. لكنه وبكل هدوء قال «من منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. ثم انحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض» (يو 7:8، 8). ماذا كتب يسوع على الأرض لا يقدر أحد أن يجزم، لكن نتيجة لهذا أخذ الجميع ينصرفون. كل الحاقدين والهائجين المتعطشين للقتل وسفك الدماء انصرفوا في خجل وانكسار. «فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك. أما دانك أحد فقالت لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً» (يو 10:8، 11).

هنا يحلو لنا أن نردد عن يسوع «فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه» (يو 4:1 ، 5). نعم إن الظلمة لم ولن تدركه …