العودة الى الصفحة السابقة
إشعياء

إشعياء

جون نور


«فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ، رَأَيْتُ السَّيِّدَ» (إشعياء 1:6)

الاسم «إشعياء» يعني «خلاص الرب» وهو ابن «آموس» أو «القوي» ومن المعتقد أنه وُلد قبل موت عزيا الملك بعشرين عاماً على الأقل، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً، لا يعرف المداورة أو المهادنة في كل ما يتصل بالدين،... يستوي عنده في ذلك الملك أو غير الملك، ألم يقل للملك آحاز: «اسْمَعُوا يَا بَيْتَ دَاوُدَ! هَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُضْجِرُوا النَّاسَ حَتَّى تُضْجِرُوا إِلهِي أَيْضًا؟» (إشعياء 13:7) وقال للملك حزقيا: «أَوْصِ بَيْتَكَ لأَنَّكَ تَمُوتُ وَلاَ تَعِيشُ» (إشعياء 1:38)، «هُوَذَا تَأْتِي أَيَّامٌ يُحْمَلُ فِيهَا كُلُّ مَا فِي بَيْتِكَ، وَمَا خَزَنَهُ آبَاؤُكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، إِلَى بَابِلَ. لاَ يُتْرَكُ شَيْءٌ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إشعياء 6:39) وقد صور إسرائيل في مرتبة أدنى من الحيوان في مطلع سفره: حيث يقول «اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ» (إشعياء 3:1). ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رقيق القلب شديد العطف.

كان إشعياء، رجلاً عميق التعبد والاحترام لله،...ولعل الرؤيا التي رآها في الهيكل، تركت طابعها العميق في حياته بجملتها!!.... وهو لا يرى هذا التعبد في مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية، فالذبائح لا قيمة لها عندما قال في سفره وفي الأصحاح الأول: «لِمَاذَا لِي كَثْرَةُ ذَبَائِحِكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. اتَّخَمْتُ مِنْ مُحْرَقَاتِ كِبَاشٍ وَشَحْمِ مُسَمَّنَاتٍ، وَبِدَمِ عُجُول وَخِرْفَانٍ وَتُيُوسٍ مَا أُسَرُّ» (إشعياء 11:1) والاهتمام بأيام معيّنة في نظره باطل وكذب: «رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّبْتُ وَنِدَاءُ الْمَحْفَلِ. لَسْتُ أُطِيقُ الإِثْمَ وَالاعْتِكَافَ» (إشعياء 13:1) كما أن الهيكل في حد ذاته لا معنى له: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي؟ وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟» (إشعياء 1:66).

إشعياء ورؤياه في الهيكل كانت نقطة التحول في تاريخ الرجل، أو بتعبير أدق، هي دعوة الله العليا التي بها ناداه إلى الخدمة العظيمة،... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض، هم الذين تغيّرت حياتهم، وغيّروا حياة الناس، لأن رؤيا الله حولت تاريخهم بأكمله،.. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم، فقام برحلته الخالدة،... وظهر لموسى في العليقة، فقام برسالته العظيمة،.. وظهر لجدعون، فحوّله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال.

على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر، وهي الرؤيا التي نحتاج إليها في أتعس الأوقات وأحلك الليالي، بعد أن أبصر إشعياء الله، والملائكة، رأى نفسه وحالته فصاح: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ» (إشعياء 5:6) هذا ما أحس به إشعياء وهو في بيت الله.

ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك في الحال ما قاله الرب على لسانه: «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ» (إشعياء 18:1)... ولم يحتج إلى وقت حتى يطهر، إذ طار واحد من السرافيم، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه، والسؤال: لماذا هي جمرة، ولماذا أخذت من على المذبح!!؟.. إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس الناري،.... ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفاري.. والله ينتزع خطايا إشعياء وخطاياي وخطاياك بفداء المسيح، وتأثير الروح القدس،... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه، أو ينظر إليه بغضب، أو يذله بها، بل سارع في الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها.

من الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية الله فهو، يذكر: «أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ... أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ» (إشعياء 45: 5، 21)... ما يزال المسيح إلى اليوم يُعاني من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه، ويخذلون آماله فيهم، وما يزال يبدو أمامنا، وقد رفضه الناس، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق. لقد جال هو في أرض فلسطين، ورأى المرضى والمُتألّمين والحزانى، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم وأمراضهم وفي سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأنّ... على أنه في المِعنى الأعمق، حمل عنّا أوجاع الخطيّة وشرّها وإثمها على الصليب، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هيّنة، بل كانت في مُنتهى القسوة والعنف، فهو لم يُجرح من أجل معاصينا فحسب، بل سُحق أيضاً بالحزن والعار الذي كسر قلبه...، ولم يؤدّب، بل ضُرب بالسياط، وقد كان هذا من أجلنا نحن العُصاة الأثمة المُتمردّين، ولم يكُن هُناك من سبيل إلى الخلاص من عِصياننا وشرّنا وتمرّدنا والعودة إلى السلام والصِحّة، إلاّ بآلامه من أجلنا، فهذه آلام كفّارية تكفر عنّا أمام الله، وفي الوقت نفسه مُطهّرة تشفينا، وتُعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا!!.. لقد ضللنا وأثمنا، ولكنه كان هو حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم!!..

كان إشعياء – كما أسلفنا – يعني «خلاص الرب» وقد قرّبنا – في حديثه عن سيادة الرب، وقداسته، والإيمان به – من الخلاص العجيب الذي أعدّه لنا الله كاملاً على هضبة الجُلجثة، والذي يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم: «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ»...!!.... (إشعياء 22:45).