العودة الى الصفحة السابقة
الفتية الثلاث الجزء الثاني

الفتية الثلاث الجزء الثاني

جون نور


سبي الفتية الثلاث إلى بابل ورفضوا السجود إلى التمثال الذي صنعه نبوخذ نصر وأمر الجميع بالسجود له فقد كان ولاء هؤلاء الفتية الثلاث لله نموذجاً من أروع نماذج الولاء في كل العصور.

في مُعسكرات الاعتقال الشيوعية، سابقاً قبض على عشرين من الشباب، ودخل الضابط الشيوعي، وعدهم قائِلاً أنتم عشرون وقال شاب: لا، بل نحن واحد وعشرون، وعدّ الضابط مرّة أخرى،.. وقال: أنتم عشرون. وردّ عليه نفس الشاب: بل واحد وعشرون، وإذ أعاد العدّ، قال: ومن هو الواحد والعِشرون!!.. فأجاب الشاب: إنه الرب يسوع المسيح!!...

عِندما انتصر الفِتية الثلاثة على أنفسهم، استطاعوا الانتصار على الإمبراطور العظيم الطاغية،.. ومِن العجيب أن ثلاثة عزل من كل سِلاح، يقفون أمام أعظم إمبراطور في عصره، الإمبراطور الذي دانت له الدنيا، وقهر الممالك، وأذلّ أعناق الرِجال،... ولعلّ هذا الإمبراطور في معركته مع الفِتية لم تقع عينه قط على من هو أجرأ أو أشجع منهم على الإطلاق، كيف لا، وهم ينادونه باسمه دون تملّق أو زلفى أو خوف أو فزع أو مُداهنة أو رياء، ومن غير إضافة أي لقب،... وفي الواقع، لا يمكن أن تعرف الدنيا في كل الأجيال، جرأة كجرأة الشهيد الذي يخوض معركة الحقّ من أجل الله!!...

ولستُ أظن أن الولاء المسيحي لله يعرف أسباباً أفضل من عظمة الله، وحنوّه، وعِنايته التي ظهرت في شخص يسوع المسيح مُخلّصنا، وعِندما أوقد الشيطان أتونه العظيم ضد الكنيسة، وأثار عليها أرهب وأشنع صور الاضطهادّ عادت مرّة أُخرى بطولة ميشائيل وحنانيا وعزريا في آلاف الآلاف الذين غنّوا في قلب الأتون المُحمّى سبعة أضعاف وصار ناراً مُشتعلة بِحُبّهم العظيم لله في يسوع المسيح الرب والمُخلّص!!

كانت المعركة بين نبوخذ نصر والفِتية، هي ذات المعركة القديمة، بين المنظور وغير المنظور، بين الحقّ والباطِل، بين الخير والشرّ، بين الأمانة والحماقة، ومن المؤكدّ أنه لم يكن هُناك تكافؤ بين الطرفين، فحسب النظرة البشرية كانت الكفّة أرجح بِما لا يُقاس نحو رجل يملك قوّة الدُنيا بأكملها بين يديه، وبين ثلاثة من الأسرى المنبوذين الذين لا حول لهم ولا قوّة وما هُم إلاّ ثلاث من النمل تحت أقدام فيل رهيب ضخم، ولكن حسب النظرة الأعمق، هُم المُسلّحون بِقوّة ربّ الجنود إله إسرائيل!...

كان يقين الفِتية أنهم لا يدخلون المعركة منفردين،.. إذ لم يكن هذا هو الاختبار الأول لهم، فقد سبقت لهم النجاة من يد الرجل البطاشة، عندما أعلن الله لِدانيال على صورة مُعجزية خارِقة لِلعادة حلم نبوخذ نصر وتفسيره،... إنهم يؤمنون بإله قوي قادر على كل شيء، وعندما يرون نبوخذ نصر أمامهم، في ضوء الله، يضحى العاتية الجبّار أقل من نملة تدبّ على الأرض، وهم لذلك يُخاطِبونه بِدون لقبه، قائلين: «يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ. هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَإِلاَّ فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَنَّنَا لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ»... (دانيال 16:3 - 18) وجنّد الطاغية كل قُواه وسُلطته، فالأتون يحمي سبعة أضعاف، والفِتية يُقيّدون، وأقوى رِجال الحرب يقذفون بهم في قلب الأتون،.. والنار المُلتهبة في شِدتها وعُنفها تقضي على القاذفين!!...

وإذا كان المسيح معنا في كل وقت، فإنه أدنى إلينا وألصق بنا ونحن في الأتون،... ومن اللازم أن نُشير إلى أن الثلاثة الفِتية كانوا يؤمِنون بِالنصر، سواء عاشوا أو ماتوا!!... فإذا عاشوا فهم شهود قُدرته، وإذا ماتوا فهم أوفياء لمحبّته، ومن المثير أن نبوخذ نصر قذف بهم موثقين، فإذ به يراهم محلولين يتمشّون في وسط الأتون، وما بهم ضرر ومعهم رابِع شبيه بإبن الآلِهة،... لقد أخطأ الرجل أعمق الخطأ، سواء في فهم قيودهم، أو في فك هذه القيود،... لقد ظنّ أن يُقيّدهم بِحبال البشر، وما دري أن قيدهم الحقيقي هو حب الله، الذي يعيشون من أجله، ويموتون في سبيله،.. ولقد ظنّ أن النار ستأتي عليهم وعلى قيودهم معاً، وما عرف أو أدرك أنهم أحرار، يتمتّعون بأكمل صور الحرية رغم قيودهم، أحرار في ذاك الذي حلّ قيودهم وفكّها، وسار معهم داخل الأتون المُلتهِب، دون أن ينالهم أدنى ضرر، إذ هو القائِل: «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا» (يوحنا 36:8)..

ولا حاجة إلى القول إن القِصّة تتكرّر في كل عصور التاريخ بِهذه الصورة أو تِلك، من أتون التجارب ونيران الاضطهادّ والمصاعِب، ولكن ابن الله يظل هناك على الدوام، لا يتغيّر ولا يتبدّل، مهما كانت النتائِج التي تتمخّض عنها الأحداث، وقد اشتعلت النيران طوال ثلاثة قرون في مطلع التاريخ المسيحي، وحمى الأتون سبعة أضعاف، إن الدرس العظيم الذي يُعطيه الثلاثة الفِتية لِلعالم، إلى جانِب الولاء المُطلق لِلسيّد، هو اليقين الذي لا يتزعزع في جوده وحُبّه،... وفي وجوده على صورة خارِقة عجيبة تفوق الإدراك والوصف، وتحيّر العقول وتُذهلها كما تحيّر نبوخذ نصر وتعجّب هو والمرازبة والشحن والوُلاة ومُشيرو الملك وهُم يرون «هؤُلاَءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لِلنَّارِ قُوَّةٌ عَلَى أَجْسَامِهِمْ، وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ، وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ» (دانيال 27:3)!!...

هل لنا مثل هذا الإيمان، مهما تغيّرت أو تلوّنت ظروف الحياة... ومهما أحاطت بِنا الصِعاب والمتاعب.