العودة الى الصفحة السابقة
الفتية الثلاثة

الفتية الثلاثة

جون نور


«هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رِجَال مَحْلُولِينَ يَتَمَشَّوْنَ فِي وَسَطِ النَّارِ وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ، وَمَنْظَرُ الرَّابعِ شَبِيهٌ بِابْنِ الآلِهَةِ» (دانيال 25:3).

فتية ثلاث وصلوا مسبيين إلى بابل، وهم فِتيان صغار في طراوة العمر وربيع الحياة، لكن من المؤكدّ أنهم تقدّموا مع الزمن، وتجاوزوا – على الأغلب – الخامِسة والثلاثين، عندما واجهوا امتحانهم الأعظم أمام أتون نبوخذ نصر، المحمى بالنار.. والثلاثة الفِتية كانت أسماؤهم العِبرية مُرتبطة بِالله – فحنانيا يعني «الله حنان»، وميشائيل يعني «من مثل الله!!؟.. » وعزريا «الله يعين».

صنع نبوخذ نصر تِمثالاً عظيماً من ذهب، تصوّره البعض ذهباً خالِصاً، وتصوّره آخرون خشباً مُغشّى كُلّه بِالذهب، وارتفاعه ستون ذِراعاً أو ما يقرب من ثلاثين مِتراً، وعرضه ستة أذرُع أو ما يقرب من ثلاثة أمتار، وقد ظنّ البعض أنه تمثال نبوخذ نصر نفسه، والأرجح أنه تمثال لآلهته، وقد دُعي لتدشين التمثال القادّة والرؤساء وحُكّام الوِلايات، فاجتمع جمع غفير من كل القبائل والأمم والألسنة، وكان لا بد أن يكون الثلاثة الفِتية الموكلون على أعمال ولاية بابل، بين الحاضرين!!.. ومن الواضح أن دانيال لم يكن بالمدينة، وإلا لكان القائد أو رجل الطليعة.. وكان على زملائه الآخرين أن يواجهوا الامتحان هذه المرّة بمفردهم،... وواجهوه على النحو العظيم الذي أثار التاريخ بأكمله!!..

عند سماع الموسيقى لامست جميع الرؤوس الأرض، إلاّ ثلاثة رؤوس لم تنحنِ للتمثال لأنها لا يمكن أن تنحني إلا لله وحده، وسارع الكلدانيون بالشكوى لنبوخذ نصر، ولعلّ هناك أكثر من سبب لهذه الشكوى، بل لعلّ بعضها يختفي وراء البعض الآخر، ومع أنها قد تكون الأسباب الحقيقية، لكنها مع ذلك تلبس مسوح غيرها من الأسباب،.. ولو أننا حاولنا أن نُحلّل أسباب الشكوى لرأيناها أولاً غيظ الرأس المُنحني من الرأس الذي لا يعرف الانحناء لبشر، والناس دائماً يبحثون عن الرؤوس المتساوية ولا يقبلون رأساً يرتفع فوق رؤوسهم لِيكشف ضعفهم ونقصهم وهزالهم وهزيمتهم.. ومن المُتصوّر أيضاً أن هذا كله استتر وراء الغيرة على الدين، فمن هم هؤلاء الذين يجرؤون على رفع رؤوسهم تِجاه معبود نبوخذ نصر ومعبودهم؟!.. وأنهم ينبغي أن يكونوا أوفياء أمناء تجاه آلِهتهم العظيمة التي ينبغي أن ترتفع على كل الآلِهة التي يتعبّد الناس لها في الأرض!!... كانت شكوى الكِلدانيين على الثلاثة الفتية خليطاً من البواعث الدفينة والظاهِرة، التي تمتزج في حياة الناس، وتكون حقدهم وتعصبّهم وضغينتهم وانتقامهم دروا بها أو لم يدروا على حد سواء!!..

كان ولاء الثلاثة الفِتية لله نموذجاً من أروع نماذج الولاء في كل العصور ويُخيّل إليّ أن هُناك عِلاقة بين أسمائهم العِبرية، وهذا الولاء، ويمكن أن نأخذ صورة منها، فإسم أحدهم «ميشائيل».. أو «من مثل الله!!؟» أو من هو الإله الذي يمكن أن يكون نداً ومثيلاً لله!!؟ لا أحد!!..، وهيهات أن يكون له مثيل بين الآلهة أو تماثيلها وأنصابها أيضاً!!.. فليصنع نبوخذ نصر تمثالاً لآلهته، وليطلق على ميشائيل اسم ميشخ وتعني معبود القمر.. فهذا أمر لا يقبله ميشائيل، حتى ولو تحوّل أشلاء تذروها الرياح، فمن مثل الله عنده؟!!.. ومن في السماء أو الأرض يُداني الله أو يُقاربه؟!!... ألم يغنِ موسى في بركته التليدة (التقاليد القديمة): «لَيْسَ مِثْلَ اللهِ يَا يَشُورُونُ. يَرْكَبُ السَّمَاءَ فِي مَعُونَتِكَ، وَالْغَمَامَ فِي عَظَمَتِهِ. الإِلهُ الْقَدِيمُ مَلْجَأٌ، وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ» (تثنية 26:33 و27)... وألم يقل إشعياء: «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ» (إشعياء 25:40) «بِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي وَتُسَوُّونَنِي وَتُمَثِّلُونَنِي لِنَتَشَابَهَ؟» (إشعياء 5:46)... وألم يهتف ميخا: «مَنْ هُوَ إِلهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ!» (ميخا 18:7).... وقد كان مُمتنعاً على الإسرائيلي لِهذا السبب أن يُحاول تصوير الله في أية صورة أو نصب أو تمثال يتقرّب به إليه، ومن ثم جاءت الوصيّة: «لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ» (خروج 4:20 و5).... والعِبراني بِهذا المِعنى لا يقبل أن يرى آلِهة بِجانب الله، أو تِمثالاً أو صورة يتقرّب بها إليه، مهما بلغت ذروة الفنّ أو الجمال،.. لأنها – في أفضل الحالات – ليست إلا مسخاً لِجلاله الفائِق الحدود!!... فإذا أضفنا اسم «حنانيا» إلى اسم «ميشائيل»، نعرف سبباً آخر لِلولاء لله، فنحن لا نعظم الله لمجرد أن عظمته لا تحاكيها أو تُدانيها أيّة عظمة أخرى، وهو أعلى من السماوات التي ليست بطاهرة أمام عينيه وإلى ملائكته ينسب حماقة!!... إن السبب الثاني للولاء هو حنوه ومحبّته وجوده وإحسانه، إذ أنه الله الحنان المشفق الرحيم الجواد، الذي يمطر علينا بالإحسان والعطف والمحبة والرأفة!!.. لقد أدرك الثلاثة الفِتية حنان إلههم في قلب الأسر والسبي والمتاعب والآلام، فهو لم يكتفِ أن يُجنبهم أهوال الاستعباد التي كان يمكن أن تطحنهم طحناً، كعبيد أسروا في الغزو والحرب، بل رفعهم وعظمهم وجعلهم سادة على مستعبديهم، وقادة في وِلاية بابل،... فإذا جِئنا إلى عزريا أو «الله يعين» أدركنا أن الله لم يتخلّ عن شعبه في وقت المأساة والضيق، بل كان على العكس، أقرب ما يكون إليهم، وهم لا يدرون،... «وَقَالَتْ صِهْيَوْنُ: قَدْ تَرَكَنِي الرَّبُّ، وَسَيِّدِي نَسِيَنِي. هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ. هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِمًا»... (إشعياء 14:49 – 16).