العودة الى الصفحة السابقة
الملكة أستير

الملكة أستير

جون نور


هل نحن في عالم يعتني به الله!!؟ وما هو مقدار عنايته!!؟ وما مدى تدخلها في أحوال الناس وظروفهم وأحداثهم وحوادثهم!؟.. وأي السبل تسلك!!؟

كانت أستير فتاة يهودية وُلدت في السبي في شوشن القصر، ويقول التقليد إن أباها مات وهي جنين في بطن أمها، كما ماتت أمها أثناء ولادتها، فهي فتاة حزينة بائسة، خرجت إلى عالم لم تتذوق فيه حنان الأمومة، وعطف الأبوة، ولم يكن لها من عائل سوى ابن عمها الفقير مردخاي، الذي تكفل بها منذ الصغر.

ليس في قصص التاريخ أمثلة كثيرة لشخصيات ترتفع من الحضيض إلى المجد بهذه الصورة، فتاة فقيرة يتيمة من شعب مرذول تدبر لها العناية أن ترتقى عرش إمبراطورية فارس، ومن أجل هذا التدبير وفي أعقابه يرتفع أناس ويسقط آخرون، وتتلفت الفتاة الفقيرة لتجد نفسها في هذا الجو الملكي العظيم، سيدة سيدات فارس، والملكة المدللة المحبوبة، لم هذا!! ألكي تلهو وتسر!!؟ ألكي تتمتع بأطايب الملك وخمر مشروبه!!؟ ألكي تغرق في الحياة الباذخة الناعمة!!؟ ألكي تأمر وتتسلط وتستبد!!؟ كلا، بل أن للعناية قصداً ثابتاً علوياً كريماً.

هذه قصة ما نعطى دائماً، دعاها الله وزنات، ومن الناس من يأخذ خمساً وآخر وزنتين، وآخر وزنة، أياً كان عددها، فهي على كل ودائع وامتيازات لم يُحرم منها واحد قط في هذه الحياة!!.. فما هي وزنتك أو وزناتك وماذا عملت بها وكيف تصرفت فيها!!؟.. هل أنت ممن يضيفون إلى ما في حوزتهم قائلا هذه ثروتي، ملكي، مجهودي، كدي، نشاطي!!؟ أم أنت ممن يعتقدون أن هذه من الله وينبغي أن تُرد لمجده!!.. إن الإجابة على هذين السؤالين، هي التي تصنع الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، بين الإنسان الخارج عن وضعه، والإنسان حيث وضعته إرادة الله... من الأقوال المأثورة عن لوثر: «إني أؤمن أن الله خلقني وخلق كل الموجودات، وإنه أعطاني وما يزال يصون لي جسدي ونفسي، بكل ما أملك من أعضاء، وحواس، وعقل، وروح، وجهّز لي ثوبي وطعامي وعائلتي وبيتي، ومنحني الكل دون استحقاق، لأرد له الجميع حمداً وشكراً وطاعة وخدمة»... على أنه يوجد من الناس من نسمعه يقول: إني على استعداد أن أخدم وأبذل وأجود بكل ما لدي لو أن ظروفي أوفق وأحسن وأيسر، لو أن الله ينقلني بين طرفة عين من الضعة والفقر، إلى الرفعة والسؤدد والمجد، كما نقل أستير!!.. مثل هذا أريد أن أذكره بقصة شاب كان يقول آه لو أنني غني لنثرت الذهب على الفقراء، وأشبعت الجياع، وكسوت العرايا، ولأنشأت الملاجئ والمستشفيات ودور العجزة... يا للأسف إني لا أملك مالاً، لكن هذا الشاب على الأقل كان يمكنه أن يقتسم – ولو لمرة واحدة – مع جار له جائع لقمة خبز أو بعض أدام... وأبدأ ما فكر أو حاول أو فعل!!....

عزيزي المستمع ألا تستطيع أن تغني مع داود في مزموره العجيب عن العناية: «مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا. أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. فَقُلْتُ: إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ» (مزمور 139: 5-12)..!؟

لقد أبصرته هاجر في الصحراء حيث ظنت نفسها وحيدة، ورآه يونان في بطن الحوت حين التف عشب البحر برأسه، واختبره الثلاثة الفتية في أتون النار. وعرفه دانيال في جب الأسود. وجاء إلى يوحنا في بطمس.. ليس هناك مكان يختفي عن عينيه.

أيتها الأم التي لها ابن ناء عنها في أقصى الأرض أذكري الله وصلي لأجل ولدك فإن الرب إلى جواره.. أيها الأب الذي لا تعلم ماذا ما يجري في بيتك فكر في الله لأنك لا تستطيع أن تصون دارك دون عنايته.. ذكرنا يا رب أن نعلم أنك كما أنك بعيد عنا فأنت إلى جوارنا أيضاً جد قريب..

وما أقواها من عناية تلك التي تسخر خليطاً عجيباً من الناس، فيهم الملك وفيهم الصعلوك، فيهم السيد وفيهم العبد، فيهم الطيب وفيهم الماكر، فيهم البسيط وفيهم الشرير، فيهم المتكبر وفيهم الوديع، فيهم المؤدب وفيهم فظ الأخلاق.. على أي حال إنها العناية الإلهية العجيبة، التي تمسك بالشر لتحول منه إلى الخير، أو كما ذكر يوسف الصديق لإخوته: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ» (تكوين 50: 20). أو كما قال شمشون: «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ» (قضاة 14: 14). أو كما هتف أساف قائلاً: «لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا» (مزمور 76: 10).. وما أكثر اختبارات القديسين التي لا تنتهي في كل التاريخ من هذا القبيل.

ألا يجدر بنا أن نقول بعد هذا كله: «مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً، وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي» (أيوب 10: 12) «هَلْ تُسْلَبُ مِنَ الْجَبَّارِ غَنِيمَةٌ؟ وَهَلْ يُفْلِتُ سَبْيُ الْمَنْصُورِ؟ فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: حَتَّى سَبْيُ الْجَبَّارِ يُسْلَبُ، وَغَنِيمَةُ الْعَاتِي تُفْلِتُ. وَأَنَا أُخَاصِمُ مُخَاصِمَكِ وَأُخَلِّصُ أَوْلاَدَكِ وَأُطْعِمُ ظَالِمِيكِ لَحْمَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَسْكَرُونَ بِدَمِهِمْ كَمَا مِنْ سُلاَفٍ.. » (إشعياء 49: 24-26) ...طوبى لجميع المتكلين عليه!!...