العودة الى الصفحة السابقة
يهوذا التلميذ الخائن

يهوذا التلميذ الخائن

جون نور


في تلك الليلة المأثورة، ليلة الصلب، وفي أثناء العشاء الأخير أزاح المسيح القناع عن خيانة كانت ساكنة في صدر أحد تلاميذه، وفضح رسولاً كانت تحدثه نفسه الأمّارة بالسوء عن جريمة بشعة.

قال يسوع لتلاميذه: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي!» (يوحنا 13: 21).

كانت هذه الواقعة مثار دهشة للتلاميذ، ولكنها لم تدهش السيد، الذي كان قد عرف أن خائناً بين صحابته الأقربين يَحْبُك جريمة في الظلام. والواقع أنه كان قد ألمح إلى هذه الخيانة قبل سنة، ولكنه أخفاها عبئاً ثقيلاً في قلبه، وقد حان الوقت ليفضح هذا السر الذي لم يعد خفياً، لأن الساعة قد أتت التي يتمجّد فيها ابن الإنسان.

أما يهوذا فكان قد استقر رأيه على أن يكون أداة لتسليم سيده إلى الموت، وعلى أن يقوم بفعلته الشنعاء في غير إبطاء. لذلك أراد يسوع أن يتخلّص من عشرة هذا الأثيم، وأن يقضي السويعات القلال الباقية من حياته في زمالة عذبة، وفي ألفة ودودة، مع أحبائه المخلصين الأوفياء، بمنجاة عن المضايقات التي قد تنشأ عن وجود عدو لئيم، وإن يكن حتى الآن مستتراً. وهو لم ينتظر الساعة التي يحلو فيها ليهوذا أن ينطلق، بل يأمره بالذهاب فوراً، معلناً سلطانه عليه، حتى بعد أن خان عهد الولاء، وقَلب له ظهر المجنّ، وباع نفسه لخدمة الشيطان. وبعد أن يناوله اللقمة يقول له: أنا أعرفك يا يهوذا. أنت هو الإنسان! لقد اعتزمت أن تسلّمني. «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ» (يوحنا 13: 27). وكان هذا أمراً مطاعاً، فانطلق الخائن على الفور.

وإذا كان اختيار هذا التلميذ الخائن لم يكن عن جهل، أو عن علم سابق، فكيف نعّلله؟ إن التعليل الوحيد الذي يخطر بالبال هو أن يهوذا كان في مظهره إنساناً مقبولاً، لا تبدو في صفاته وسجاياه ما ينفِّر الناظر إليه. وفي هذه الحالة كان اختيار يسوع له أمراً مفهوماً. ولم يفعل ربُّ الكنيسة شيئاً غير ما ينبغي أن تفعله الكنيسة في الظروف المماثلة.

إن الخيانة التي اقترفها يهوذا، والتي جعلته «عَلماً» في التاريخ، كانت وما زالت، على كثرة ما تعرضت له من تحليل ونقاش، سرّاً غامضاً لا يمكن تعليله أو تأويله. ولقد اجتهد الباحثون والدارسون في شرح البواعث الكامنة المحتملة، التي ولدت هذا العمل القبيح اللعين، وذهب بعضهم إلى التماس المعذرة للفاعل، كما ذهب آخرون إلى تهويل الجريمة وصبّ اللعنات على مرتكبها. على أن هذه كلها لم تكن إلا من قبيل الحدس والتخمين، ولا يقبلها العقل. أما قصة الإنجيل فلم تتعرض لتعليلها، واكتفت بالإشارة إلى شر يهوذا. على أن البشائر الثلاث الأولى في الإنجيل قد أشارت فعلاً إلى أن الخائن قد ساوم الكهنة، وتناول منهم قدراً من المال لقاء للخدمة التي أدَّاها لهم. كما أن يوحنا قد أشار في قصة دهن قدمي يسوع بالطيب، إلى أن التلميذ الذي احتجَّ على هذا الصنيع كان «سارقاً» يبتز ما بقى في «الصندوق» الذي كان بعهدته (يوحنا 6:12). وهذه الوقائع تصور يهوذا رجلا طامعاً جشعاً. ولا يأخذ مالاً لأداء مثل هذه الخدمة غير إنسان شَره جشع.

كان في التاريخ خونة كثيرون غير يهوذا، قلبوا ظهر المجن لكرام الناس وأفاضلهم، وتنكروا لمبادئهم التي اعتزوا بها، مسوقين إلى ذلك بالخبث والشر، أو جرَّ المغانم المادية. ولعلِّ بعضهم كان أسوأ من هذا الإسخريوطي، ولكنه امتاز عنهم بما لا يحسد عليه، في أنه قد خان أرفع الضحايا شأناً وأسماهم قدراً. وكثيرون ممن ارتكبوا جريمة، واقترفوا خطية، لم تتحرك نفوسهم، وعاشوا حياة لينة سعيدة بعد أن تلطخت نفوسهم بلوثة الدناءة والسفالة.

خرج يهوذا وأسلم سيده للموت، ثم انطلق وأزهق روحه، وقضى على حياته. وقد كان ذلك الانتحار مأساة اقترنت بمأساة الصلب، ومثلاً صارخاً على أن الشر لا يلد إلا الشر... لقد كان يهوذا شريراً، فاقترف جريمته الشنعاء... وكان صالحاً لأنه لم يقو على احتمال عبء ذنبه. فويل لمثل هذا الإنسان! كان خير له لو لم تلده أمه!

يا لها من خاتمة كئيبة محزنة لبداية سعيدة موفقة! لقد أختير أن يكون زميلاً «لابن الإنسان»، وشاهِد عيان لأعماله، وهو ينادي برسالة الإنجيل، ويخرج الأرواح النجسة. والآن ها هوذا نفسه يبيت عبداً لإبليس، الذي يستذله لاقتراف أبشع جريمة، وأخيراً تسوقه العناية العادلة للانتقام من جريمته بالقضاء على فاعلها. وإزاء هذه القصة، ماذا عسى أن يقول أصحاب النظرية التي تعزو كل الفوارق الأدبية الأخلاقية بين الناس إلى الوسط الذي ينبتون فيه، والظروف التي تكتنفهم؟ وأي إنسان وآتته الظروف ليكون خيراً صالحاً مثل يهوذا؟ ومع ذلك فإنا نرى المؤثرات التي كان ينبغي أن تغذي فيه الصلاح والخير، لم تفعل شيئاً غير إحياء بواعث الشر الكامنة في نفسه.

لقد كان وجود إنسان مثل يهوذا صليباً أليماً قاسياً ليسوع ذي القلب المحب، الرقيق! ولكنه احتمله سنوات. وهو هنا مثال وعزاء لأتباعه حقاً، لأنه احتمل هذا الصليب – مع صلبان كثيرة أخرى – لهذه الغاية. لقد زامل فادي البشر صاحباً رفع عليه عقبه، لكي يكون في هذا – كما في غيره – مثلنا، قادراً على أن يعين إخوته المجربين.......