العودة الى الصفحة السابقة
المسيح يقرع باب قلوب البشر

المسيح يقرع باب قلوب البشر

جون نور


كانت خطيئة عصيان آدم وحواء، أبوينا الأولين في جنة عدن، مصدر شقائنا وتعاستنا على الأرض، ففقدنا من جرائها، فردوسنا الحبيب ورزحنا تحت نير عبوديتها الثقيل، منتظرين ومتلهفين إلى مجيء المخلّص الذي وعد الله به آدم ونسله بعد سقطته الأولى. وتحقق ذلك حين أرسل الله الملاك جبريل إلى مريم العذراء وحياها قائلاً: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ... لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى... فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ... فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا 28:1 - 38).

لم تكن ولادة المسيح، في وقت ما حدثاً جديداً، كما لم تتضمن بالنسبة للسواد الأعظم من الناس أية فكرة دينية عميقة بل هي في نظرهم عبارة عن مهرجانات ميلادية شعبية، وفرصة ذهبية للألبسة الفاخرة والحفلات الساهرة والمأكولات اللذيذة والمشروبات الشهية وبرامج ترفيهية، كالرقص والغناء والطرب والتي لا تنسجم وروح الميلاد ناسين قول الشاعر:

ليس العيد لمن لبس الجديد

ولكن العيد لمن حسناته تزيد

لم يكن الميلاد الأول مهرجاناً وعربدة، بل كان درساً لنا في التواضع والفقر، كانت ولادة في مغارة وضيعة يأوي إليها الرعاة مع قطعانهم. فلجأ إليها يوسف ومريم، اتقاء البرد القارص والمطر الهاطل، بعد أن سُدت في وجهيهما أبواب قصور الأغنياء والمترفين.

«جَاءَ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا 11:1). حل ضيفاً علينا فأبينا أن يسكن بيننا، فاضطر إلى ولوج مغارة والمبيت في اصطبل، إن فكرة الميلاد أسمى من مهرجانات ترفيهية، لأنها فكرة سماوية أكثر منها بشرية أرضية، الميلاد هو حب وعطاء وحنان، الميلاد هو افتقاد الجياع والحزانى ومن عضهم الدهر بنابه، الميلاد هو مصالحة الأرض مع السماء.

لا يزال المسيح يتجول في العالم، باحثاً عن مسكن له في قلوب البشر، وعندما يفتح البشر قلوبهم ويجد له فيها مأوى، تنشد حينئذ الملائكة حقاً أنشودة السلام: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ» (لوقا 2: 14).

لا يزال المسيح كما كان عابر سبيل يقف على باب قلوبنا ويقرعها ولسان حاله يردد:

لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.

ها هو المسيح يشاهد قلوب البشر على مصراعيها، لا ليدخلها هو مع السلام والعدل، مع السعادة والفرح بل ليدخلها الظلم والجشع والعجرفة والحسد والتسلط وحشد الأموال، وعندما يقرعها مثنى وثلاث سرعان ما يجيبه صوت الأنانية من الداخل: عد أدراجك أيها الغريب المتطفل، إذ لا مكان لك في قلوبنا، فعالمنا الأرضي يختلف كلياً عن عالمك السماوي ويختلف شعارنا عن شعارك.

اعتاد العالم يا سيدي في دول كثيرة أن يحتفل بذكرى ميلادك على قصف المدافع وقعقعة السلاح، على أزيز الطائرات المغيرة، ونوح الأرامل وبكاء الأيتام، وما زال يتجدد ميلادك يا سيدي والمستشفيات ملأى بالمشوهين والمعوقين وعدد كبير من اللاجئين والمشردين يهيمون على وجوههم بلا مأوى ولا مورد رزق.

في مؤتمرات السلام يساومون على السلام، ويتبادلون السلام وصدورهم موغلة بالأحقاد، وفي الخفاء يخططون للحرب، ضاربين بعرض الحائط دعوة صاحب المزامير: فإذا اليوم سمعتم صوت الرب، يدوي في قلوبكم يدعوكم للسلام والعدل لا تقسوا قلوبكم ولا تصموا آذانكم.

غير أن ذكرى ميلادك في هذا العام، تختلف كلياً عن ذكرى الأعوام الماضية، إذ يتطلع الناس إلى بيت لحم، إلى مدينة السلام وفي قلوبهم بارقة أمل وفي عيونهم بصيص من السلام يلوح في أفقنا: إننا في ذكرى ميلادك اليوم، أكثر تفاؤلاً من أي ميلاد سابق ونحن على عتبة الألف الثالث من تاريخنا، ففي بلادنا بدأ هذا العهد الجديد من تاريخ البشر بميلاد المسيح وهذه فرصة ثمينة يجب علينا أن نغتنمها، وأن نستعد لها استعداداً كبيراً يليق وعظمة هذا الحدث التاريخي الهام. فيا طفل بيت لحم ويا رمز السلام والمصالحة، ويا حامل راية السلام امنحنا السلام الذي نتشوق إليه أي السلام الدائم، الشامل والقائم على الحق والعدل أعد السلام الى فلسطين وسوريا والعراق ودولنا العربية التي تعاني من المشاكل والاضطرابات وكل بلد فيه مشاكل واضطرابات ساعدنا أيها السيد لكي ما تكون ذكرى ميلادك المجيد ذكرى للتصالح معك ومع أنفسنا لكي ما تعطينا طفل المغارة ذلك السلام الذي نادت به الملائكة «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14) فإن سكن السلام في الأرض.. تصمت المدافع ولتطو أعلام الحرب عملاً بنبوءة إشعياء النبي: «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ» (إشعياء 2: 4).