العودة الى الصفحة السابقة
يعقوب

يعقوب

جون نور


«لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِيمَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِسْرَائِيلَ» (تكوين 35: 10).

ربما لا يجد المرء وصفاً أبلغ وأقسى، وأفظع من وصف أحدهم ليعقوب عندما قال: «كان مع أبيه شيطان مع ملاك، وكان مع أخيه شيطاناً مع إنسان، وكان مع خاله شيطاناً مع شيطان»..

هذه الرجل العجيب بدأ حياته مجموعة من الشر والإثم، والضعف والخطية، لولا نعمة الله التي انتشلته لكان غريباً جداً أن يكون هذا الإنسان ابن الموعد وسر البركة!!..

لم يكن يعقوب أنانياً فحسب، بل كان مهندساً بارعاً في حياة الأنانية التي عاشها في صدر الشباب، فهو أناني مع أخيه، وأناني مع زوجته، وأناني مع أولاده، والأنانية عنده فن وحساب وتخطيط،.. فهو الأناني في علاقته بأخيه عيسو، فهو يطلب البكورية التي فاتته بالمولد، وهو يطلب البركة، ولا يفزع خشية بل خوفاً من أن يعرف أبوه صوته، ويكتشف الخداع الذي رتبه للحصول على البركة،.. وهو أناني كزوج لا يبالي بالزوجة إلا بالقدر الذي تعطيه إياه من متعة الحياة، وهو لهذا يفضل راحيل على ليئة المكروهة والمنبوذة، ولقد ضاق الله بهذه الأنانية، وانحنى على الزوجة البائسة يحسن إليها بالأولاد، إن عزّ أن يحسن إليها الزوج بعدله ومحبته،.. وهو أناني كأب – فهو في موكب المواجهة والمقابلة مع أخيه عيسو الذي سار إليه ومعه أربعمائة رجل، قسم الأولاد على ليئة، وعلى راحيل، وعلى الجاريتين، ووضع الجاريتين وأولادهما أولاً، وليئة وأولادها وراءهم، وراحيل ويوسف أخيراً.. كان يعقوب دون أدنى شك أستاذاً بارعاً في هندسة الأنانية.

وهو المتآمر من بطن أمه... إذ ماذا يعني أنه وُلد وهو يمسك بعقب، أخيه؟!.. أنت لا تمسك بعقب غيرك إلا إذا كنت تشبه بالحية القديمة، التي تلسع العقب. وقد كان هو حية في التآمر، يدبر المؤامرات في الخفاء، ويحكم تخطيطها، وتنفيذها، فهو يلبس ثياب أخيه، ويضع جلد المعزى على يديه وعلى عنقه بالاتفاق مع أمه، وهو يكشط القضبان الخضراء من اللبن واللوز والدلب، ويقشرها مخططاً إياها تخطيطاً ليوقفها في الأجران على مجاري المياه، ويستولد على وحم الأغنام القوية له، والضعيفة للابان خاله، وهو يخرج هارباً من خاله دون أن يعطيه خبراً، منتهزاً فرصه غيبته بعيداً عندما مضى ليجز غنمه!!.. ولعله وهو ينتقل من مؤامرة إلى أخرى، كان يتدرب على جرأة تتزايد مع نجاح المؤامرة، فلا يرمش له الطرف، وهو يندفع، ويغامر، ويتآمر!!..

طمعه في المال كان بغير حدود،.. إذ كان كل شيء عنده بثمن، فهو إذا اشترى يبخس الثمن إلا إذا أكره على غير ذلك، فهو يشتري من أخيه أغلى ما عنده بأكلة عدس، وقد علم بيته أن كل شيء لا بد أن يكون بحساب، لدرجة أن مبيت ليلة عند ليئة تأخذ راحيل مقابله لفاحاً من الحقل، وهي تسلمه لها في تلك الليلة،.. كان معلماً عظيماً من أعظم المعلمين الذين ظهروا على هذه الأرض في حساب المال، وما يزال أبناؤه اليهود إلى اليوم سادة الكل في السيطرة والطمع والجشع والتجارة بالمال في كل أرجاء الأرض!!..

هو الصبور إذا ما وضع هدفاً أمام عينيه، لأجل امرأة رعى... وهو لا يكل لأجل راحيل سبعة أعوام، أو بتعبير أصح أربعة عشر عاماً بعدما خدعه خاله بأختها ليئة، وهو يخدم ست سنوات من أجل الثروة التي اقتناها!!..

هذا هو الرجل الذي جاءت به نعمة الله ليكون ابن الوعد، وسر البركة لأجيال بلا عدد ستأتي بعده وفي إثره!!..

هل توقف الله عند يعقوب وهو يقابل الخسة والضعة والأنانية بالجود والمحبة والترفق والإحسان!!... كلا وإلى الأبد، وما يعقوب إلا واحد من النماذج المتعددة التي بها يجذب الله ابنه الضال الشريد الهائم على وجهه في الأرض، ومهما بعُد الابن ونأى وتاه في الكورة البعيدة، فإن استقباله الدائم هو الحضن الأبدي، والقبلة المشرقة، والحلة الأولى والعجل المسمن، والخاتم، والحذاء، والموسيقى والرقص،.. فإذا قالوا لك غير ذلك فلا تصدق،... لأن الله لا يمكن أن يعالج ابنه العائد بالقسوة والعقوبة والشدة إلا كآخر أسلوب عندما لا تنجح الأساليب الأخرى من جود وعطاء ورفق ومحبة!!...

كانت الولادة الجديدة ليعقوب بمثابة الفجر في حياته مع الله، غير أنه لا بد من السؤال هنا: وماذا بعد ذلك!!؟ هل نخطئ، وكأنما لم يحدث شيء،.. حاشا لله أن يفعل ذلك،.. إنه على العكس يحب، ويؤدب، ويصقل... فإذا رام الله أن يجعل إنساناً ما، عموداً في هيكله، فإنه يفعل معه ذات الشيء، ليخلصه من كل الشوائب، والعيوب والزوائد، والنتوءات التي يتركها الجسد والعالم والخطية والشيطان في حياته!!...

وإذ أراد يعقوب أن يقتحم الطريق عند مخاضة يبوق، منعه، وصارعه الواقف بالمرصاد أمامه في الطريق،... وكانت ليلة من أقسى الليالي في حياة يعقوب، لجأ فيها إلى البكاء والاسترحام وطلب البركة، ورق المعطي، وضربه في الجسد، ليرفعه في الروح..

لم يعد ليعقوب مطمع في الدنيا، وقد ارتسمت علامات من الألم والحزن لفقد ابنه الحبيب يوسف، فقد يعقوب بصره، وتفتحت رؤاه وبصيرته، ولعله – وهو يمد النظر إلى مطلع الحياة والشباب – عاد يسأل: لماذا حدث كل ما حدث!؟ ولماذا اندفع وتخبط فيما فعل وتصرف!؟ لقد كان عبئاً مؤلماً على أي حال نال تأديب الرب عليه.. أما حياته بجملتها فقد تلخصت في عبارة واحدة، قالها في ضجعة الموت، وهو يبارك أولاده الواحد بعد الآخر،.. قالها وهو يلتقط أنفاسه، في قلب البركة،.. ولم تكن أكثر من ثلاث كلمات: «لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ» (تكوين 49: 18)..!!