العودة الى الصفحة السابقة
إيزابل

إيزابل

جون نور


إذ طُلب إلينا أن نتصور وحشاً ضارياً يجمع في جسد واحد جميع رؤوس الحيوانات المفترسة مجتمعة معاً ومضاف إليها رأس إنسان، فهي امرأة اسمها ايزابل. وقد أضحت رمزاً عتيداً رهيباً لكل أنثى تفعل الشر على نحو وحشي، يسير في قلب العصور والأجيال، ويدمر الأفراد والبيوت والجماعات والعشائر، والكنائس.

هل يولد الشر ويستقر في حياة الإنسان بين يوم وليلة، أم أن بذرته كأية بذرة أخرى، تبدأ عندما تزرع في مطلع الأمر، عوداً رطباً يمكن أن يقلع، أو ينمو على حسب ما ينال من صاحبه أو من الآخرين أو المجتمع من مقاومة أو تأييد،... عندما نتأمل شخصية إيزابل وأمها وأهلها وبيتها ومدى ما حملت معها من هذا البيت وهي تشق طريقها وتحكم مع زوجها الملك آخاب قرابة اثنين وعشرين عاماً ثم تسيطر بعد ذلك في نسلها سنوات أخرى قاسية رهيبة، لعل هذا يفسر كيف ظهرت هذه المرأة على ما عرفت عليه من قسوة أو شر أو عنف!!.. بل يفسر كيف لعب الدور الوراثي والديني معاً، أبعد الآثار في طبعها الدموي الفتاك، فلا تستريح إلى منظر القتل أو السفك أو الدم فحسب، بل تسر به وتبتهج وترقص على طلب من المزيد!!.. أليس هذا عينه ما قاله السيد: «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ.. » (يوحنا 16: 2)... أجل وبالحقيقة لا نعلم قط، قسوة أو طغياناً يمكن أن يصل إليه الإنسان، كمثل هذا الذي يمعن خلف تفسير ديني أو فهم عقائدي!!... ومن العجيب أن المرأة رغم ما جبلت عليه من هذه القسوة أو البطش إلا أنها كانت واسعة الحيلة شديدة الدهاء، تستطيع أن تجد لكل عقدة حلاً حتى هذه التي يقف أمامها نابوت اليزرعلي وكرمه الذي اشتهاه الملك آخاب زوجها ، دون الاهتداء إلى حل، فنابوت كان لا يملك أصلاً أن يتصرف في كرمه إذ هو محرم عليه دينياً أن يفعل هذا بحسب الشريعة والدين، وآخاب لا يعرف كيف السبيل إلى حل مثل هذه العقدة مع شهوته العارمة إلى هذا الكرم، إلى الدرجة التي يدخل فيها إلى بيته، ويضطجع على سريره، ويحول وجهه إلى الحائط، ويمتنع عن الطعام والشراب،... على أن المرأة الشريرة، وهي ترى زوجها على هذا الوضع، تأتي إليه وتسخر منه وتتعجب، كيف يعجز الملك، أمام عقدة سهلة ميسورة كهذه، ويتم هذا عن طريق حل واحد لا غير، باتهام نابوت بالتجديف على الله والملك، وليس أيسر من إثبات هذه التهمة، بإشاعة الجو المناسب لها، بالصوم والصلاة والحزن كأعظم جريمة يتصور وقوعها في ذلك الحين، فإذا وجد الشاهدان اللذان يمكن أن يعدا للشهادة بذلك، فالعقوبة لا تلحق بنابوت وحده، بل لا بد لفظاعتها ورهبتها أن تجرف بأسرته معاً، فيُرجم الكل ويصبح الكرم بلا وارث، ويرثه الملك عند ذاك بحكم تقليد كان موضوعاً هناك،... وتم الكل كما رسمت المرأة ونفذت.

قال أحد الكتّاب وهو يصف هذه المرأة: «إن ظلها الأسود وقع لسنوات متعددة على شعب إسرائيل ويهوذا، إذ هي من ذلك الصنف من النساء اللواتي لا يتورعن عن عمل كل شيء وبكل عنف وبكل أسلوب... ومتى أتيحت لهن قدرة التخريب والتدمير فإنهن على أتم الاستعداد لفعل ذلك على أبشع الصور وأرهبها».. ولعله من الملاحظ أن آخاب زوجها كان من أول ضحاياها وأشدهم خضوعاً وخنوعاً وسقوطاً تحت تأثيرها المدمر وسلطانها الرهيب!..

يتعرض المؤمنون على الدوام في عصور الآلام والاضطهاد إلى السؤال الذي يلح على أذهانهم ومشاعرهم وحياتهم، ويضغط عليهم ضغطاً قاسياً شديداً: أين الله من كل هذه الأحداث والمآسي والاضطهادات، وهل يمكن أن يترك الله الشر دون تحذير أو تنبيه أو مقاومة، وليس هذا من باب العدالة فحسب بل لعله من باب الرحمة أيضاً،.. وقد أسمع الله إيزابيل والشعب أكثر من صوت من هذا القبيل... ولعل أول هذه الأصوات وأصرحها وأهمها كان صوت إيليا النبي الذي ظهر فجأة في طول البلاد وعرضها كالنور البارع في الليلة المظلمة، ومع أننا لا نعرف كم كان عمره عندما ظهر، وفي أي بيئة نشأ، وكيف قضى حياته الأولى، إلا أننا نعلم أنه كان الرجل الذي جبله الله على القوة والعنف والصلابة والخشونة، وأعده للحظة الحاسمة ليقف في وجه الوثنية والشر والطغيان والفساد، وكان حرياً بالمرأة أن تعلم، بأن مملكة الله لا يمكن أن تنقرض، وسيجد الله شهوده وهيهات أن يهمل الله أو يترك نفسه بلا شاهد،.. بل سيقف ولو مع واحد فقط ليصنع فيه ومعه المعجزات والأعاجيب...

وبعد هذا كله كان لا بد أن تأتي النهاية، التي لم تستطع أن تراها، أو يراها الشعب، في وسط المظاهر المتعددة من غرور أو ضجيج ولكن الله رآها، وحدد أين ومتى وكيف ستكون!!؟.. ومع أن الله أعلنها من البداءة على لسان إيليا، وبدأت بهلاك آخاب الذي لحست الكلاب دمه، وتلاها قتل السبعين من أولاده، بيد أقرب الناس إليهم، وإرسال رؤوسهم في سلال متعددة إلى ياهو المتمرد على سيده ومولاه،... إلا أنها إلى هذا الحد لم تستطع أن تتعلم أو تتعظ، دون أن تعلم أنه أداة الله القاسية الرهيبة والتي ستضع الحد النهائي لما اقترفته من آثام وشرور ومفاسد... ومن العجيب أن الكلاب لم تبق من جسدها الجميل الفاتن: «إِلاَّ الْجُمْجُمَةَ وَالرِّجْلَيْنِ وَكَفَّيِ الْيَدَيْنِ» (2ملوك 9: 35). وذلك لا لكي يثبت صدق الله فحسب، بل لتتحول هذه البقايا معالم خالدة على الطريق لكل العابرين كل من يريد أن يرى ويتعلم كيف ينتهي الشرير وشره.

هذه هي نهاية الشر والشرير وكل من يعمل شراً أمام الله القدوس.

ليكن لنا في درس إيزابل عبرة لنا بأن نهاية الشر لا بد وأن يلقى عقاباً من الرب وإن طال الزمن أو قصر.