العودة الى الصفحة السابقة
مريم النبية

مريم النبية

(هارون وموسى ومريم أختهما)

جون نور


كانت مريم النبية أولى مريمات الكتاب فتاة رائعة حلوة جميلة فتاة بلغت مرتبة الزعامة والقيادة في شعبها وضعها الله جنباً إلى جنب مع أخويها موسى وهارون. كانت فتاة كالطود الشامخ، امتد اسمها وارتفع ودوى وذلك لأنها أفنت نفسها وعاشت لغيرها على أنها، يا للأسف لم تستطع هذا إلى النهاية وفشلت في معركة النفس وهي على أبواب النصر ساعة التداني من الموت فحمل التاريخ لنا صورة محزنة لمريم البرصاء صورة الغيمة التي تأتي ساعة الغروب فتبدد ذلك الجمال الأخاذ الذي يبدو مع أضواء الغسق المتكسرة التي توشك أن تضيع وراء الأفق.

مريم هي الأخت الكبرى لموسى وهارون كانت غالباً في العاشرة من العمر يوم وُلد موسى وقد بدت في هذا السن الباكرة آية في الذكاء وقوة الإدراك تقف لتراقب أخاها الصغير ولكن من على بعد حتى لا تثير حولها وحوله الشكوك.. إني أحس أن موسى أخذ منها الكثير، وأنه انتفع بنصائحها وإرشاداتها إلى حد بعيد، وهي أيضاً الفتاة العامرة بالإيمان، الفتاة التي آمنت بإلهها وشعبها وأخيها، ولهذا عاشت لإلهها وشعبها وأخيها، وكرّست كل قواها في سبيل هذا الإله والشعب والأخ.

كان هذا ولما تزل الفتاة غضة صغيرة يافعة، وُلد موسى أخوها، وكان – كما وصفه استفانوس – جميلاً جداً. ويوسيفوس المؤرخ يذكر أن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً فما من إنسان رآه طفلاً محمولاً على الأكتاف أو صبياً يسير في طريق ما، إلا ووقف مأخوذاً بهذا الجمال العجيب البارع. ومن ثم ثارت في يوكابد في عنف غريزتها كأم فأبت – دون خوف أو خشية أو تردد – أن تسلم ولدها للموت طعاماً الأسماك والتماسيح في مياه النيل. بل أن هذا الجمال الغريب الرائع الفريد أوحى إليها أن وراءه شيئاً سماوياً إلهياً قدسياً؛ وراءه رسالة ما لشعب الله التعس المعذب. لذلك خبأته ثلاثة أشهر ولما لم تستطع أن تخبئه أكثر من ذلك، أخذت له سفطاً من البردى وطلته بالقار ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يحدث له.

ما أقدر ما تستطيعه الأخوات حين تقف كل واحدة لتحرس أخاها الصغير، وتطوقه بحنانها وحبها. وأخواتها، ما أجملهن إذ يقفن وراء الستار منكرات ذواتهن، يتعبن ويتألمن ليدفعن بإخوتهن إلى البطولة والمجد والخلود.

ولكن كيف تسقط مريم في هذه الخطية!؟ مريم التي أحبت موسى، وأعجبت بموسى، وعاشت لموسى كيف تنقلب عليه وتغار منه!؟ وكيف تتآمر مع أخيها ضده!؟ ما سرّ هذا التحول المخيف والتبذل المحزن!؟ تزوج موسى بامرأة كوشية وليس المجال هنا مجال الحكم عليه أو له، أأخطأ أم أصاب! إنما يعنينا أمر واحد، أن وازن القلوب وكاشف الأسرار أبصر تياراً أسود يندفع في قلب مريم.. عاطفة غير كريمة تتمشى في نفسها.. شعور الغيرة والحسد إزاء هذا الدخيل الذي جاء به موسى ليقطن في بيته.. إنها امرأة أخرى تقاسمها موسى وحب موسى وانتباه موسى. وهل تطيق مريم هذا!؟ كانت مريم أخت موسى، وأمه، وابنته، وصديقته، ومشيرته. كانت له كل شيء. فمن ذا الذي يجرؤ أن يغتصب منها شعورها أو بعض شعورها نحوه.. الكوشية!؟ كلا وألف كلا!... وصرخت مريم في سريرتها بدموع: لا يا موسى لا يا أخي لا يا ولدي لا يا أبي... ليس لي سواك أجعلني كخاتم على ساعدك لأن المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب..

ثارت مريم على أخيها، وأثارت معها الأخ الوادع الطيب القلب هارون. وأبرز ضعفات هارون اندفاعه وعدم صلابته وصموده. اندفع يوماً ما أمام الجماهير الحانقة المغضبة فصنع لها عجلاً. واندفع هنا تحت تأثير مريم الغيور الحاسدة وتآمر الاثنان على إسقاط موسى: يا للرعب من يصدق هذا!؟ إن موسى يهاجمه أعز أحبائه في الوجود..

ثارت مريم على أخيها، ورامت أن تسقطه تحت نوازع الأنانية والحسد... ووقف الشعب ينتظر القائدة البائسة أسبوعاً كاملاً، لم تعش مريم بعد هذا الأسبوع، لقد انتهت حياتها العظيمة، لم تقض عليها الشيخوخة أو ضربة البرص.. لقد ماتت مريم كسيرة القلب وما استطاع هارون بتقدماته وذبائحه وعطره وبخوره، أن يعيد إليها شيئاً من معنى الحياة. وموسى بكل حلمه وعطفه وحبه وحنانه وثقته ما استطاع أن يجبر قلبها الكسير. ولقد جاهد ابنا موسى وجاهدت الكوشية وجاهدت بنات إسرائيل أن يردوا شيئاً من العزاء إلى عينيها الساهمتين الحزينتين، فما استطاعوا.. لم تعد مريم لتشترك مع الشعب في مسراته ولهوه، ومتاعه ورقصه، وهتافاته. لقد أضحى كل هذا قصة الماضي والأمس المدبر. رقدت مريم في قادش إلى أن تستيقظ يوماً مع أخيها وشعبها وقديسي الله، وتمسك بدفها وقيثارتها لتغني أغنية موسى والخروف وتصيح: «مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟» (خروج 15: 11).