العودة الى الصفحة السابقة
نبوخذ نصر

نبوخذ نصر

جون نور


«أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، رَفَعْتُ عَيْنَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي» (دانيال 34:4)

نبوخذ:

كان نبوخذ نصر ملكاً على بابل مدة ثلاثة وأربعين عاماً ما بين عام 605 إلى 562 ق.م، وكان أبوه مؤسس الدولة الكلدانية، وكان هو في حياة أبيه قائداً للجيش، وسمع عن موت أبيه، وهو في المعارك الحربية، فعاد إلى بلاده ليعتلي العرش،.. وبالمقاييس البشرية كان هذا الرجل أعظم رجل في عصره، وقصته تصلح أن تكون نموذجاً وعبرة لمن يريد أن يتعلم ويعتبر، لقد بلغ من القوة ما لم يكن له نظير في جيله ولعله وصل إلى إحساس الإسكندر الأكبر، عندما اكتسح أمامه الممالك وبلغ به الاعتداد والغرور، إنه ليس من طينة الناس بل من طينة أخرى وعندما نزف جرح من يده ذات مرة، تعجب كيف ينهمر الدم من يده، كما ينهمر من سائر البشر!! وإذ اكتسح نبوخذ نصر جميع الممالك التي كانت تحيط به، وقهر أعظم دولتين، وهما آشور ومصر، في عصره، رأى نفسه الشجرة «الَّتِي كَبُرَتْ وَقَوِيَتْ وَبَلَغَ عُلُوُّهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْظَرُهَا إِلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَأَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ، وَتَحْتَهَا سَكَنَ حَيَوَانُ الْبَرِّ، وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ» (دانيال 4: 20 و21). وللعظمة التي أعطاه الله إياها: «كَانَتْ تَرْتَعِدُ وَتَفْزَعُ قُدَّامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. فَأَيًّا شَاءَ قَتَلَ، وَأَيًّا شَاءَ اسْتَحْيَا، وَأَيًّا شَاءَ رَفَعَ، وَأَيًّا شَاءَ وَضَعَ» (دانيال 19:5).

الجنون الذي أصاب الملك في السنين الأخيرة من حكمه، لم يكن في واقع الحال إلا انعكاساً لطبيعته الداخلية المجنونة، وكما يعبث الجنون بالإنسان خفية، قبل أن يظهر أمام الناس، هكذا امتلأ نبوخذ نصر من الجنون الذي ظهر في أعماله قبل أن يُطرد مع الحيوان، ويعيش مطروداً لقد أصيب الرجل أولاً: بجنون القوة،.. والقوة إذا امتلأ بها الإنسان، لا تصبر على التفكير أو تعيش بالمنطق، أو تقبل الحجة العقلية،... وليس أدل على ذلك مما فعله مع حكماء بابل، عندما حلم حلماً، فانزعج وطار عنه نومه، ويبدو أنه نسي الحلم، ومع ذلك يريد تفسيره، وهو يطلب من المجوس والسحرة والعرافين أن يخبروه بالحلم وبتفسيره، وإلا يُمزقون إرباً إرباً وتصبح بيوتهم مزبلة،.. والذي يفسر الحلم يعطيه الهدايا، ويُكرم إكراماً عظيماً!!. ولم يكن أمام هؤلاء جميعاً إلا الإجابة بالقول: «لَيْسَ عَلَى الأَرْضِ إِنْسَانٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَ الْمَلِكِ. لِذلِكَ لَيْسَ مَلِكٌ عَظِيمٌ ذُو سُلْطَانٍ سَأَلَ أَمْرًا مِثْلَ هذَا مِنْ مَجُوسِيٍّ أَوْ سَاحِرٍ أَوْ كَلْدَانِيٍّ. وَالأَمْرُ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْمَلِكُ عَسِرٌ، وَلَيْسَ آخَرُ يُبَيِّنُهُ قُدَّامَ الْمَلِكِ غَيْرَ الآلِهَةِ الَّذِينَ لَيْسَتْ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْبَشَرِ. لأَجْلِ ذلِكَ غَضِبَ الْمَلِكُ وَاغْتَاظَ جِدًّا وَأَمَرَ بِإِبَادَةِ كُلِّ حُكَمَاءِ بَابِلَ» (دانيال 2: 10 - 12)...

امتلأ نبوخذ نصر بجنون الثروة، جنون الإنسان الذي يملك القصور ويطل من فوقها على بابل، المدينة الفنية الممتلئة بالعز والبهاء.. وإذا كثرت الثروة فربما تجعل الإنسان مجنوناً لا يستطيع أن يعقل أو يفكر... وويل للإنسان إذا أصيب بجنون الثروة...

ينبغي أن ندرك هنا ما قاله أحدهم: لا تتصور أن نبوخذ نصر كان فريداً في هذا، إذ إن في أعماق كل واحد منا نبوخذ نصر آخر ينهض وهو ينسب إلى نفسه، ما كان ينبغي أن يذكره بالشكر أمام الله،.. فيوم تنجح حاذر أن تقول هذه بابل التي صنعتها باقتداري وقوتي ولجلال مجدي،.. ويوم تتفوق على زميل أو جار أو صديق، حاذر أن يستيقظ فيك نبوخذ نصر،.. حاذر من هذا المارد، أو الحيوان المجنون الذي إذا تركته ينفلت في نفسك سيقودك تدري أو لا تدري إلى الجنون المطبق!!...

ضرب الله الملك بالضربة القاسية إذ أسقطه إلى مرتبة الحيوان، أو بالأحرى أعطاه أن يكتشف الصورة التي انحدر إليها من الإنسانية إلى الحيوانية.

هوى به الله من القمة إلى القاع، ومن المجد إلى الهوان... وعندما وصل إلى القاع وفي الوادي العميق، وليس على أعلى بقعة في بابل، ترفق به الله وأحسن إليه... وفي وادي الاتضاع نستطيع أن نرى الله، وإحسانه وجوده وحبه وعطفه وغفرانه. ويوم يدرك هذا، فهو في الطريق إلى الصعود أمام الله، «اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً!! »... (1بطرس 5:5) وإلى جانب هذا رفع نبوخذ نصر عينيه نحو السماء في ذلة وانكسار، وفي تلك اللحظة عاد إليه عقله،... لا أعلم إن كان قد صلى بشفتيه، أم صلى في صمت بعينيه، ولكنه على أية حال رفع عينيه نحو السماء،.. وأشفق الله على البائس المجنون، ورد إليه عقله!!...

وهو لا يستطيع أن يذكر هذا إلا بالشكر وعرفان الجميل والحمد لله وتسبيحه، وهو لا يكتفي بهذا كله، بل يرسل شهادته للعالم وللتاريخ متحدثاً عن القدرة الإلهية التي تطوي كل شيء، وتنتصر على كل شيء: «وَبَارَكْتُ الْعَلِيَّ وَسَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟!!..»... (دانيال 4: 34، 35).